قِصَصٌ لَا تَثْبُتُ عَنْ أَئِمَّةِ المَذَاهِبِ الأَرْبَعَةِ : الحمد لله وبعد ؛
الكلُ يعلمُ ما للإمامِ مالكٍ إمامِ دارِ الهجرةِ من مكانةٍ عظيمةٍ ، فهو إمامٌ متبعٌ ، أحدُ أئمةِ المذاهبِ الأربعةِ المعروفةِ في بلادِ المسلمين ، وقد ورد حديثٌ حملهُ كثيرٌ من أهلِ العلمِ على أن المقصودَ به هو الإمامُ مالكٌ
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رِوَايَةً : يُوشِكُ أَنْ يَضْرِبَ النَّاسُ أَكْبَادَ الْإِبِلِ ، يَطْلُبُونَ الْعِلْمَ ، فَلَا يَجِدُونَ أَحَدًا أَعْلَمَ مِنْ عَالِمِ الْمَدِينَةِ .
رواه الترمذي (2680) ، وأحمد (2/299) ، وابن حبان (3728) ، والحاكم (1/90 – 91) .
وقد اختُلف في رفعه ووقفه فرجح الإمام أحمد وقفه كما في " المنتخب من العلل للخلال " (67) لابن قدامة المقدسي ، وقال الشيخ طارق عوض الله في تحقيقه لـ " المنتخب " ( ص 138) : وذكر محقق " تهذيب الكمال " (27/117) أن الإمام أحمد أعل هذا الحديث بالوقف ، ولم يعز ذلك إلى مصدر ، فإن صح هذا عن أحمد فهو يؤكد ما سبق ، على أن ظاهر صنيع أحمد هنا ، وكذا في " المسند " يدل على ذلك . والله أعلم .ا.هـ.
وقال الشيخ سليمان العلوان في " شرحه لجامع الترمذي " ( الحديث الثاني ) : بيد أن هذا الخبر مختلف في صحته . فقد أعل بعنعنة ابن جريج ، وهذا ليس بشيء ، وأعل بعنعنة أبي الزبير ، وهذا ليس بشيء ، بينما أعله الإمام أحمد بالوقف على أبي هريرة كما في " المنتخب من علل الخلال " للإمام الحافظ ابن قدامة ، وللموقوف حكم المرفوع ، إذ لا مجال لإجتهاد هنا .ا.هـ.
قال الترمذي عقب الحديث : وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُيَيْنَةَ أَنَّهُ قَالَ فِي هَذَا : سُئِلَ مَنْ عَالِمُ الْمَدِينَةِ ؟ فَقَالَ : إِنَّهُ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ ، و قَالَ إِسْحَقُ بْنُ مُوسَى : سَمِعْتُ ابْنَ عُيَيْنَةَ يَقُولُ : هُوَ الْعُمَرِيُّ الزَّاهِدُ ، وَاسْمُهُ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ ، و سَمِعْت يَحْيَى بْنَ مُوسَى يَقُولُ : قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ : هُوَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ . وَالْعُمَرِيُّ هُوَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ مِنْ وَلَدِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ .ا.هـ.
ورجح شيخ الإسلام ابن تيمية في " الفتاوى " (20/323 - 325) أن المقصود بالحديث هو الإمام مالك بن أنس فقال : وَهَذَا يُصَدِّقُ الْحَدِيثَ الَّذِي رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " يُوشِكُ أَنْ يَضْرِبَ النَّاسُ أَكْبَادَ الْإِبِلِ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ فَلَا يَجِدُونَ عَالِمًا أَعْلَمَ مِنْ عَالِمِ الْمَدِينَةِ " فَقَدْ رُوِيَ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ كَابْنِ جريج وَابْنِ عيينة وَغَيْرِهِمَا أَنَّهُمْ قَالُوا : هُوَ مَالِكٌ .
وَاَلَّذِينَ نَازَعُوا فِي هَذَا لَهُمْ مَأْخَذَانِ :
أَحَدُهُمَا : الطَّعْنُ فِي الْحَدِيثِ فَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ فِيهِ انْقِطَاعًا .
وَالثَّانِي : أَنَّهُ أَرَادَ غَيْرَ مَالِكٍ كَالْعُمَرِيِّ الزَّاهِدِ وَنَحْوِهِ .
فَيُقَالُ : مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ وَأَنَّهُ مَالِكٌ أَمْرٌ متقرر لِمَنْ كَانَ مَوْجُودًا وَبِالتَّوَاتُرِ لِمَنْ كَانَ غَائِبًا ؛ فَإِنَّهُ لَا رَيْبَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي عَصْرِ مَالِكٍ أَحَدٌ ضَرَبَ إلَيْهِ النَّاسُ أَكْبَادَ الْإِبِلِ أَكْثَرُ مِنْ مَالِكٍ .
وَهَذَا يُقَرَّرُ بِوَجْهَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : بِطَلَبِ تَقْدِيمِهِ عَلَى مِثْلِ الثَّوْرِيِّ والأوزاعي وَاللَّيْثِ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَهَذَا فِيهِ نِزَاعٌ وَلَا حَاجَةَ إلَيْهِ فِي هَذَا الْمَقَامِ .
وَالثَّانِي : أَنْ يُقَالَ : إنَّ مَالِكًا تَأَخَّرَ مَوْتُهُ عَنْ هَؤُلَاءِ كُلِّهِمْ فَإِنَّهُ تُوُفِّيَ سَنَةَ تِسْعٍ وَسَبْعِينَ وَمِائَةٍ وَهَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ مَاتُوا قَبْلَ ذَلِكَ .
فَمَعْلُومٌ أَنَّهُ بَعْدَ مَوْتِ هَؤُلَاءِ لَمْ يَكُنْ فِي الْأُمَّةِ أَعْلَمُ مِنْ مَالِكٍ فِي ذَلِكَ الْعَصْرِ وَهَذَا لَا يُنَازِعُ فِيهِ أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَلَا رُحِلَ إلَى أَحَدٍ مِنْ عُلَمَاءِ الْمَدِينَةِ مَا رُحِلَ إلَى مَالِكٍ لَا قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ رُحِلَ إلَيْهِ مِنْ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَرَحَلَ إلَيْهِ النَّاسُ عَلَى اخْتِلَافِ طَبَقَاتِهِمْ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَالزُّهَّادِ وَالْمُلُوكِ وَالْعَامَّةِ وَانْتَشَرَ مُوَطَّؤُهُ فِي الْأَرْضِ حَتَّى لَا يُعْرَفَ فِي ذَلِكَ الْعَصْرِ كِتَابٌ بَعْدَ الْقُرْآنِ كَانَ أَكْثَرَ انْتِشَارًا مِنْ الْمُوَطَّأِ وَأَخَذَ الْمُوَطَّأَ عَنْهُ أَهْلُ الْحِجَازِ وَالشَّامِ وَالْعِرَاقِ وَمِنْ أَصْغَرِ مَنْ أَخَذَ عَنْهُ الشَّافِعِيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ وَأَمْثَالُهُمَا وَكَانَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ إذَا حَدَّثَ بِالْعِرَاقِ عَنْ مَالِكٍ وَالْحِجَازِيِّينَ تَمْتَلِئُ دَارُهُ وَإِذَا حَدَّثَ عَنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ يَقِلُّ النَّاسُ لِعِلْمِهِمْ بِأَنَّ عِلْمَ مَالِكٍ وَأَهْلِ الْمَدِينَةِ أَصَحُّ وَأَثْبَتُ .
وَأَجَلُّ مَنْ أَخَذَ عَنْهُ الشَّافِعِيُّ الْعِلْمَ اثْنَانِ مَالِكٌ وَابْنُ عيينة . وَمَعْلُومٌ عِنْدَ كُلِّ أَحَدٍ أَنَّ مَالِكًا أَجَلُّ مِنْ ابْنِ عيينة حَتَّى إنَّهُ كَانَ يَقُولُ :
إنِّي وَمَالِكًا كَمَا قَالَ الْقَائِلُ :
وَابْنُ اللَّبُونِ إذَا مَا لَزَّ فِي قَرْنٍ * * * لَمْ يَسْتَطِعْ صَوْلَةَ الْبَزْلِ القناعيس
وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ الَّذِي ضُرِبَتْ إلَيْهِ أَكْبَادُ الْإِبِلِ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ هُوَ الْعُمَرِيُّ الزَّاهِدُ مَعَ كَوْنِهِ كَانَ رَجُلًا صَالِحًا زَاهِدًا آمِرًا بِالْمَعْرُوفِ نَاهِيًا عَنْ الْمُنْكَرِ لَمْ يُعْرَفْ أَنَّ النَّاسَ احْتَاجُوا إلَى شَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ وَلَا رَحَلُوا إلَيْهِ فِيهِ .
وَكَانَ إذَا أَرَادَ أَمْرًا يَسْتَشِيرُ مَالِكًا وَيَسْتَفْتِيهِ كَمَا نُقِلَ أَنَّهُ اسْتَشَارَهُ لَمَّا كَتَبَ إلَيْهِ مِنْ الْعِرَاقِ أَنْ يَتَوَلَّى الْخِلَافَةَ فَقَالَ : حَتَّى أُشَاوِرَ مَالِكًا ، فَلَمَّا اسْتَشَارَهُ أَشَارَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَدْخُلَ فِي ذَلِكَ وَأَخْبَرَهُ أَنَّ هَذَا لَا يَتْرُكُهُ وَلَدُ الْعَبَّاسِ حَتَّى تُرَاقَ فِيهِ دِمَاءٌ كَثِيرَةٌ وَذَكَرَ لَهُ مَا ذَكَرَهُ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ - لَمَّا قِيلَ لَهُ : وَلِّ الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ - أَنَّ بَنِي أُمَيَّةَ لَا يَدَعُونَ هَذَا الْأَمْرَ حَتَّى تُرَاقَ فِيهِ دِمَاءٌ كَثِيرَةٌ .
وَهَذِهِ عُلُومُ التَّفْسِيرِ وَالْحَدِيثِ وَالْفُتْيَا وَغَيْرِهَا مِنْ الْعُلُومِ ؛ لَمْ يُعْلَمْ أَنَّ النَّاسَ أَخَذُوا عَنْ الْعُمَرِيِّ الزَّاهِدِ مِنْهَا مَا يُذْكَرُ فَكَيْفَ يُقْرَنُ هَذَا بِمَالِكِ فِي الْعِلْمِ وَرِحْلَةِ النَّاسِ إلَيْهِ ؟ .
ثُمَّ هَذِهِ كُتُبُ الصَّحِيحِ الَّتِي أَجَلُّ مَا فِيهَا كِتَابُ الْبُخَارِيِّ أَوَّلُ مَا يَسْتَفْتِحُ الْبَابَ بِحَدِيثِ مَالِكٍ وَإِنْ كَانَ فِي الْبَابِ شَيْءٌ مِنْ حَدِيثِ مَالِكٍ لَا يُقَدِّمُ عَلَى حَدِيثِهِ غَيْرَهُ وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ النَّاسَ ضَرَبُوا أَكْبَادَ الْإِبِلِ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ فَلَمْ يَجِدُوا عَالِمًا أَعْلَمَ مِنْ مَالِكٍ فِي وَقْتِهِ .ا.هـ.
ومن العبارات التي اشتهرت عند القاصي والداني في بيان قدر الإمام مالك في الفتوى : " لا يُفْتَى وَمَالِكٌ فِي المَدِينَةِ " ، ونسمع كثيرا من الوعاظ والخطباء يوردون قصةً بسبب العبارة ، فما هي هذه القصة المنسوبة إلى الإمام مالك ؟ والتي بسببها قيل في حقه : " لا يفتى ومالك في المدينة " ، هذا ما ستعرفه في السطور التالية .
نَصُ القِصَّةِ :
قال الحافظ ابن حجر في " لسان الميزان " (6/304 – 305) : " قرأت بخط الحافظ قطب الدين الحلبي ما نصه : وسيدي أبي عبد الرحمن بن عمر بن محمد بن سعيد وجدت بخط عمي بكر بن محمد بن سعيد بن يعقوب بن إسحاق بن حجر العسقلاني إملاء قال : ثنا إبراهيم بن عقبة ، حدثني المسيب بن عبد الكريم الخثعمي ، حدثتني أمة العزيز امرأة أيوب بن صالح صاحب مالك قالت : غسلنا امرأة بالمدينة فضربت امرأة يدها على عجيزتها فقالت : " ما علمتك إلا زانية أو مأبونة " . فالتزقت يدها بعجيزتها ، فأخبروا مالكا ، فقال : " هذه المرأة تطلب حدّها ، فاجتمع الناس ، فأمر مالك أن تُضرب الحدّ فضربت تسعة وسبعين سوطا ، ولم تنتزع اليد ، فلما ضربت تمام الثمانين انتزعت اليد ، وصلي على المرأة ودفنت " .
وقال الخطيب الشربيني في " مغنى المحتاج " (1/358) : غريبة : حُكي أن امرأة بالمدينة في زمن مالك غسلت امرأة ، فالتصقت يدها على فرجها ، فتحير الناس في أمرها هل تقطع يد الغاسلة أو فرج الميتة ؟ فاستفتي مالك في ذلك فقال : سلوها ما قالت لما وضعت يدها عليها ، فسألوها فقالت : قلت طالما عصى هذا الفرج ربه ، فقال مالك : هذا قذف ، اجلدوها ثمانين تتخلص يدها ، فجلدوها ذلك فخلصت يدها . فمن ثم قيل : " لا يفتى ومالك بالمدينة " .
نَقْدُ العُلَمَاءِ لِلقِصَّةِ :
قال الشيخ مشهور حسن في " قصص لا تثبت " (2/78 – 79) : هذه القصة مكذوبة مفترة على الإمام مالك ، ففيها يعقوب بن إسحاق العسقلاني ، ترجمه الذهبي في " الميزان " (4/449) فقال عنه : " كذاب " ، وقال الحافظ ابن حجر في اللسان " (6/304) قبل أن يذكرها عنه : " وقد وجدت له حكاية تشبه أن تكون من وضعه " وسردها .ا.هـ.
وساقها الخطيب الشربيني بصيغة التمريض " حُكي " ، وقوله قبلها " غريبة " دالٌ على ضعفها عنده .
ومع قصة أخرى في سلسلة الدفاع عن أئمة المذاهب الأربعة مما ينسبه إليهم أهل البدع .
الكلُ يعلمُ ما للإمامِ مالكٍ إمامِ دارِ الهجرةِ من مكانةٍ عظيمةٍ ، فهو إمامٌ متبعٌ ، أحدُ أئمةِ المذاهبِ الأربعةِ المعروفةِ في بلادِ المسلمين ، وقد ورد حديثٌ حملهُ كثيرٌ من أهلِ العلمِ على أن المقصودَ به هو الإمامُ مالكٌ
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رِوَايَةً : يُوشِكُ أَنْ يَضْرِبَ النَّاسُ أَكْبَادَ الْإِبِلِ ، يَطْلُبُونَ الْعِلْمَ ، فَلَا يَجِدُونَ أَحَدًا أَعْلَمَ مِنْ عَالِمِ الْمَدِينَةِ .
رواه الترمذي (2680) ، وأحمد (2/299) ، وابن حبان (3728) ، والحاكم (1/90 – 91) .
وقد اختُلف في رفعه ووقفه فرجح الإمام أحمد وقفه كما في " المنتخب من العلل للخلال " (67) لابن قدامة المقدسي ، وقال الشيخ طارق عوض الله في تحقيقه لـ " المنتخب " ( ص 138) : وذكر محقق " تهذيب الكمال " (27/117) أن الإمام أحمد أعل هذا الحديث بالوقف ، ولم يعز ذلك إلى مصدر ، فإن صح هذا عن أحمد فهو يؤكد ما سبق ، على أن ظاهر صنيع أحمد هنا ، وكذا في " المسند " يدل على ذلك . والله أعلم .ا.هـ.
وقال الشيخ سليمان العلوان في " شرحه لجامع الترمذي " ( الحديث الثاني ) : بيد أن هذا الخبر مختلف في صحته . فقد أعل بعنعنة ابن جريج ، وهذا ليس بشيء ، وأعل بعنعنة أبي الزبير ، وهذا ليس بشيء ، بينما أعله الإمام أحمد بالوقف على أبي هريرة كما في " المنتخب من علل الخلال " للإمام الحافظ ابن قدامة ، وللموقوف حكم المرفوع ، إذ لا مجال لإجتهاد هنا .ا.هـ.
قال الترمذي عقب الحديث : وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُيَيْنَةَ أَنَّهُ قَالَ فِي هَذَا : سُئِلَ مَنْ عَالِمُ الْمَدِينَةِ ؟ فَقَالَ : إِنَّهُ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ ، و قَالَ إِسْحَقُ بْنُ مُوسَى : سَمِعْتُ ابْنَ عُيَيْنَةَ يَقُولُ : هُوَ الْعُمَرِيُّ الزَّاهِدُ ، وَاسْمُهُ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ ، و سَمِعْت يَحْيَى بْنَ مُوسَى يَقُولُ : قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ : هُوَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ . وَالْعُمَرِيُّ هُوَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ مِنْ وَلَدِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ .ا.هـ.
ورجح شيخ الإسلام ابن تيمية في " الفتاوى " (20/323 - 325) أن المقصود بالحديث هو الإمام مالك بن أنس فقال : وَهَذَا يُصَدِّقُ الْحَدِيثَ الَّذِي رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " يُوشِكُ أَنْ يَضْرِبَ النَّاسُ أَكْبَادَ الْإِبِلِ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ فَلَا يَجِدُونَ عَالِمًا أَعْلَمَ مِنْ عَالِمِ الْمَدِينَةِ " فَقَدْ رُوِيَ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ كَابْنِ جريج وَابْنِ عيينة وَغَيْرِهِمَا أَنَّهُمْ قَالُوا : هُوَ مَالِكٌ .
وَاَلَّذِينَ نَازَعُوا فِي هَذَا لَهُمْ مَأْخَذَانِ :
أَحَدُهُمَا : الطَّعْنُ فِي الْحَدِيثِ فَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ فِيهِ انْقِطَاعًا .
وَالثَّانِي : أَنَّهُ أَرَادَ غَيْرَ مَالِكٍ كَالْعُمَرِيِّ الزَّاهِدِ وَنَحْوِهِ .
فَيُقَالُ : مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ وَأَنَّهُ مَالِكٌ أَمْرٌ متقرر لِمَنْ كَانَ مَوْجُودًا وَبِالتَّوَاتُرِ لِمَنْ كَانَ غَائِبًا ؛ فَإِنَّهُ لَا رَيْبَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي عَصْرِ مَالِكٍ أَحَدٌ ضَرَبَ إلَيْهِ النَّاسُ أَكْبَادَ الْإِبِلِ أَكْثَرُ مِنْ مَالِكٍ .
وَهَذَا يُقَرَّرُ بِوَجْهَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : بِطَلَبِ تَقْدِيمِهِ عَلَى مِثْلِ الثَّوْرِيِّ والأوزاعي وَاللَّيْثِ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَهَذَا فِيهِ نِزَاعٌ وَلَا حَاجَةَ إلَيْهِ فِي هَذَا الْمَقَامِ .
وَالثَّانِي : أَنْ يُقَالَ : إنَّ مَالِكًا تَأَخَّرَ مَوْتُهُ عَنْ هَؤُلَاءِ كُلِّهِمْ فَإِنَّهُ تُوُفِّيَ سَنَةَ تِسْعٍ وَسَبْعِينَ وَمِائَةٍ وَهَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ مَاتُوا قَبْلَ ذَلِكَ .
فَمَعْلُومٌ أَنَّهُ بَعْدَ مَوْتِ هَؤُلَاءِ لَمْ يَكُنْ فِي الْأُمَّةِ أَعْلَمُ مِنْ مَالِكٍ فِي ذَلِكَ الْعَصْرِ وَهَذَا لَا يُنَازِعُ فِيهِ أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَلَا رُحِلَ إلَى أَحَدٍ مِنْ عُلَمَاءِ الْمَدِينَةِ مَا رُحِلَ إلَى مَالِكٍ لَا قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ رُحِلَ إلَيْهِ مِنْ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَرَحَلَ إلَيْهِ النَّاسُ عَلَى اخْتِلَافِ طَبَقَاتِهِمْ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَالزُّهَّادِ وَالْمُلُوكِ وَالْعَامَّةِ وَانْتَشَرَ مُوَطَّؤُهُ فِي الْأَرْضِ حَتَّى لَا يُعْرَفَ فِي ذَلِكَ الْعَصْرِ كِتَابٌ بَعْدَ الْقُرْآنِ كَانَ أَكْثَرَ انْتِشَارًا مِنْ الْمُوَطَّأِ وَأَخَذَ الْمُوَطَّأَ عَنْهُ أَهْلُ الْحِجَازِ وَالشَّامِ وَالْعِرَاقِ وَمِنْ أَصْغَرِ مَنْ أَخَذَ عَنْهُ الشَّافِعِيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ وَأَمْثَالُهُمَا وَكَانَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ إذَا حَدَّثَ بِالْعِرَاقِ عَنْ مَالِكٍ وَالْحِجَازِيِّينَ تَمْتَلِئُ دَارُهُ وَإِذَا حَدَّثَ عَنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ يَقِلُّ النَّاسُ لِعِلْمِهِمْ بِأَنَّ عِلْمَ مَالِكٍ وَأَهْلِ الْمَدِينَةِ أَصَحُّ وَأَثْبَتُ .
وَأَجَلُّ مَنْ أَخَذَ عَنْهُ الشَّافِعِيُّ الْعِلْمَ اثْنَانِ مَالِكٌ وَابْنُ عيينة . وَمَعْلُومٌ عِنْدَ كُلِّ أَحَدٍ أَنَّ مَالِكًا أَجَلُّ مِنْ ابْنِ عيينة حَتَّى إنَّهُ كَانَ يَقُولُ :
إنِّي وَمَالِكًا كَمَا قَالَ الْقَائِلُ :
وَابْنُ اللَّبُونِ إذَا مَا لَزَّ فِي قَرْنٍ * * * لَمْ يَسْتَطِعْ صَوْلَةَ الْبَزْلِ القناعيس
وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ الَّذِي ضُرِبَتْ إلَيْهِ أَكْبَادُ الْإِبِلِ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ هُوَ الْعُمَرِيُّ الزَّاهِدُ مَعَ كَوْنِهِ كَانَ رَجُلًا صَالِحًا زَاهِدًا آمِرًا بِالْمَعْرُوفِ نَاهِيًا عَنْ الْمُنْكَرِ لَمْ يُعْرَفْ أَنَّ النَّاسَ احْتَاجُوا إلَى شَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ وَلَا رَحَلُوا إلَيْهِ فِيهِ .
وَكَانَ إذَا أَرَادَ أَمْرًا يَسْتَشِيرُ مَالِكًا وَيَسْتَفْتِيهِ كَمَا نُقِلَ أَنَّهُ اسْتَشَارَهُ لَمَّا كَتَبَ إلَيْهِ مِنْ الْعِرَاقِ أَنْ يَتَوَلَّى الْخِلَافَةَ فَقَالَ : حَتَّى أُشَاوِرَ مَالِكًا ، فَلَمَّا اسْتَشَارَهُ أَشَارَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَدْخُلَ فِي ذَلِكَ وَأَخْبَرَهُ أَنَّ هَذَا لَا يَتْرُكُهُ وَلَدُ الْعَبَّاسِ حَتَّى تُرَاقَ فِيهِ دِمَاءٌ كَثِيرَةٌ وَذَكَرَ لَهُ مَا ذَكَرَهُ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ - لَمَّا قِيلَ لَهُ : وَلِّ الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ - أَنَّ بَنِي أُمَيَّةَ لَا يَدَعُونَ هَذَا الْأَمْرَ حَتَّى تُرَاقَ فِيهِ دِمَاءٌ كَثِيرَةٌ .
وَهَذِهِ عُلُومُ التَّفْسِيرِ وَالْحَدِيثِ وَالْفُتْيَا وَغَيْرِهَا مِنْ الْعُلُومِ ؛ لَمْ يُعْلَمْ أَنَّ النَّاسَ أَخَذُوا عَنْ الْعُمَرِيِّ الزَّاهِدِ مِنْهَا مَا يُذْكَرُ فَكَيْفَ يُقْرَنُ هَذَا بِمَالِكِ فِي الْعِلْمِ وَرِحْلَةِ النَّاسِ إلَيْهِ ؟ .
ثُمَّ هَذِهِ كُتُبُ الصَّحِيحِ الَّتِي أَجَلُّ مَا فِيهَا كِتَابُ الْبُخَارِيِّ أَوَّلُ مَا يَسْتَفْتِحُ الْبَابَ بِحَدِيثِ مَالِكٍ وَإِنْ كَانَ فِي الْبَابِ شَيْءٌ مِنْ حَدِيثِ مَالِكٍ لَا يُقَدِّمُ عَلَى حَدِيثِهِ غَيْرَهُ وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ النَّاسَ ضَرَبُوا أَكْبَادَ الْإِبِلِ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ فَلَمْ يَجِدُوا عَالِمًا أَعْلَمَ مِنْ مَالِكٍ فِي وَقْتِهِ .ا.هـ.
ومن العبارات التي اشتهرت عند القاصي والداني في بيان قدر الإمام مالك في الفتوى : " لا يُفْتَى وَمَالِكٌ فِي المَدِينَةِ " ، ونسمع كثيرا من الوعاظ والخطباء يوردون قصةً بسبب العبارة ، فما هي هذه القصة المنسوبة إلى الإمام مالك ؟ والتي بسببها قيل في حقه : " لا يفتى ومالك في المدينة " ، هذا ما ستعرفه في السطور التالية .
نَصُ القِصَّةِ :
قال الحافظ ابن حجر في " لسان الميزان " (6/304 – 305) : " قرأت بخط الحافظ قطب الدين الحلبي ما نصه : وسيدي أبي عبد الرحمن بن عمر بن محمد بن سعيد وجدت بخط عمي بكر بن محمد بن سعيد بن يعقوب بن إسحاق بن حجر العسقلاني إملاء قال : ثنا إبراهيم بن عقبة ، حدثني المسيب بن عبد الكريم الخثعمي ، حدثتني أمة العزيز امرأة أيوب بن صالح صاحب مالك قالت : غسلنا امرأة بالمدينة فضربت امرأة يدها على عجيزتها فقالت : " ما علمتك إلا زانية أو مأبونة " . فالتزقت يدها بعجيزتها ، فأخبروا مالكا ، فقال : " هذه المرأة تطلب حدّها ، فاجتمع الناس ، فأمر مالك أن تُضرب الحدّ فضربت تسعة وسبعين سوطا ، ولم تنتزع اليد ، فلما ضربت تمام الثمانين انتزعت اليد ، وصلي على المرأة ودفنت " .
وقال الخطيب الشربيني في " مغنى المحتاج " (1/358) : غريبة : حُكي أن امرأة بالمدينة في زمن مالك غسلت امرأة ، فالتصقت يدها على فرجها ، فتحير الناس في أمرها هل تقطع يد الغاسلة أو فرج الميتة ؟ فاستفتي مالك في ذلك فقال : سلوها ما قالت لما وضعت يدها عليها ، فسألوها فقالت : قلت طالما عصى هذا الفرج ربه ، فقال مالك : هذا قذف ، اجلدوها ثمانين تتخلص يدها ، فجلدوها ذلك فخلصت يدها . فمن ثم قيل : " لا يفتى ومالك بالمدينة " .
نَقْدُ العُلَمَاءِ لِلقِصَّةِ :
قال الشيخ مشهور حسن في " قصص لا تثبت " (2/78 – 79) : هذه القصة مكذوبة مفترة على الإمام مالك ، ففيها يعقوب بن إسحاق العسقلاني ، ترجمه الذهبي في " الميزان " (4/449) فقال عنه : " كذاب " ، وقال الحافظ ابن حجر في اللسان " (6/304) قبل أن يذكرها عنه : " وقد وجدت له حكاية تشبه أن تكون من وضعه " وسردها .ا.هـ.
وساقها الخطيب الشربيني بصيغة التمريض " حُكي " ، وقوله قبلها " غريبة " دالٌ على ضعفها عنده .
ومع قصة أخرى في سلسلة الدفاع عن أئمة المذاهب الأربعة مما ينسبه إليهم أهل البدع .