قد ذكرنا ما كان من أمر نوح ، وأمر ولده واقتسامهم الأرض بعده ، ومساكن كل فريق منهم ، فكان ممن طغى وبغى فأرسل إليهم رسولا فكذبوه فأهلكهم الله ، هذان الحيان من ولد إرم بن سام بن نوح ، أحدهما عاد ، والثاني ثمود .
فأما عاد فهو عاد بن عوض بن إرم بن سام بن نوح ، وهو عاد الأولى ، وكانت مساكنهم ما بين الشحر ، وعمان ، وحضرموت بالأحقاف ، فكانوا جبارين طوال القامة لم يكن مثلهم ، يقول الله تعالى : واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح وزادكم في الخلق بسطة ، فأرسل الله إليهم هود بن عبد الله بن رباح بن الجلود بن عاد بن عوض .
ومن الناس من يزعم أنه هود وهو غابر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح ، وكانوا أهل أوثان ثلاثة ، يقال لأحدها ضرا ، وللآخر ضمور ، وللثالث الهبا ، فدعاهم إلى توحيد الله ، وإفراده بالعبادة دون غيره ، وترك ظلم الناس ، فكذبوه ، وقالوا : من أشد منا قوة ! ولم يؤمن بهود منهم إلا قليل .
وكان من أمرهم ما ذكره ابن إسحاق قال : إن عادا أصابهم قحط تتابع عليهم بتكذيبهم هودا ، فلما أصابهم قالوا : جهزوا منكم وفدا إلى مكة يستسقون لكم ، فبعثوا [ ص: 80 ] قيل بن عير ، ولقيم بن هزال ، ومرثد بن سعد ، وكان مسلما يكتم إسلامه ، وجلهمة بن الخيبري خال معاوية بن بكر ، ولقمان بن عاد بن فلان بن عاد الأكبر في سبعين رجلا من قومهم ، فلما قدموا مكة نزلوا على معاوية بن بكر بظاهر مكة خارجا عن الحرم ، فأكرمهم ، وكانوا أخواله وصهره لأن لقيم بن هزال كان تزوج هزيلة بنت بكر أخت معاوية ، فأولدها أولادا كانوا عند خالهم معاوية بمكة ، وهم عبيد ، وعمرو ، وعامر ، وعمير بنو لقيم ، وهو عاد الآخرة التي بقيت بعد عاد الأولى ، فلما نزلوا على معاوية أقاموا عنده شهرا يشربون الخمر وتغنيهم الجرادتان - قينتان لمعاوية - فلما رأى معاوية طول مقامهم وتركهم ما أرسلوا له شق عليه ذلك ، وقال : هلك أخوالي ، واستحيا أن يأمر الوفد بالخروج إلى ما بعثوا له ، فذكر ذلك للجرادتين فقالتا : قل شعرا نغنيهم به لا يدرون من قائله لعلهم يتحركون ; فقال معاوية :
ألا يا قيل ويحك قم فهينم لعل الله يصبحنا غماما فيسقي أرض عاد إن عادا
قد امسوا لا يبينون الكلاما
في أبيات ذكرها . والهينمة : الكلام الخفي .
فلما غنتهم الجرادتان ذلك الشعر وسمعه القوم ، قال بعضهم لبعض : يا قوم ، بعثكم قومكم يتغوثون بكم من البلاء الذي نزل بهم فأبطأتم عليهم فادخلوا الحرم ، واستسقوا لقومكم . فقال مرثد بن سعد : إنهم والله لا يسقون بدعائهم ، ولكن أطيعوا نبيكم ، فأنتم تسقون ، وأظهر إسلامه عند ذلك . فقال جلهمة بن الخيبري خال معاوية ، لمعاوية بن بكر : احبس عنا مرثد بن سعد . وخرجوا إلى مكة يستسقون بها لعاد ، فدعوا الله تعالى لقومهم ، واستسقوا ، فأنشأ الله سحائب ثلاثا بيضاء ، وحمراء ، وسوداء ، ونادى مناد منها : يا قيل ، اختر لنفسك وقومك . فقال : قد اخترت السحابة السوداء فإنها أكثر ماء ، فناداه [ ص: 81 ] مناد اختر رمادا رمدادا ، لا تبقي من عاد أحدا ، لا ولدا تترك ولا والدا إلا جعلته همدا ، إلا بني اللوذية المهدى .
وبنو اللوذية : بنو لقيم بن هزال ، كانوا بمكة عند خالهم معاوية بن بكر .
وساق الله السحابة السوداء بما فيها من العذاب إلى عاد ، فخرجت عليهم من واد يقال له المغيث ، فلما رأوها استبشروا بها وقالوا : هذا عارض ممطرنا يقول الله تعالى : بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم تدمر كل شيء بأمر ربها أي كل شيء أمرت به . وكان أول من رأى ما فيها وعرف أنها ريح مهلكة امرأة من عاد يقال لها فهدد ، فلما رأت ما فيها صاحت وصعقت ، فلما أفاقت قالوا : ماذا رأيت ؟ قالت : رأيت ريحا فيها كشهب النار أمامها رجال يقودونها ، فلما خرجت الريح من الوادي قال سبعة رهط منهم ، أحدهم الخلجان : تعالوا حتى نقوم على شفير الوادي فنردها . فجعلت الريح تدخل تحت الواحد منهم فتحمله فتدق عنقه ، وبقي الخلجان فمال إلى الجبل وقال :
لم يبق إلا الخلجان نفسه يا لك من يوم دهاني أمسه
بثابت الوطء شديد وطسه لو لم يجئني جئته أجسه
فقال له هود : أسلم تسلم . فقال : وما لي ؟ قال : الجنة . فقال : فما هؤلاء الذين في السحاب كأنهم البخت ؟ قال : الملائكة . قال : أيعيذني ربك منهم إن أسلمت ؟ قال : هل رأيت ملكا يعيذ من جنده ؟ قال : لو فعل ما رضيت .
ثم جاءت الريح وألحقته بأصحابه و سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما ، كما قال تعالى . والحسوم : الدائمة . فلم تدع من عاد أحدا إلا هلك ، واعتزل هود والمؤمنون في حظيرة لم يصبه ومن معه منها إلا تليين الجلود ، وإنها لتمر [ ص: 82 ] من عاد بالظعن وما بين السماء والأرض وتدمغهم بالحجارة . وعاد وفد عاد إلى معاوية بن بكر فنزلوا عليه ، فأتاهم رجل على ناقة فأخبرهم بمصاب عاد وسلامة هود .
قال : وكان قد قيل للقمان بن عاد : اختر لنفسك إلا أنه لا سبيل إلى الخلود . فقال : يا رب أعطني عمرا . فقيل له : اختر . فاختار عمر سبعة أنسر . فعمر فيما يزعمون عمر سبعة أنسر ، فكان يأخذ الفرخ الذكر حين يخرج من بيضته حتى إذا مات أخذ غيره ، وكان يعيش كل نسر ثمانين سنة ، فلما مات السابع مات لقمان معه ، وكان السابع يسمى لبدا . قال : وكان عمر هود مائة وخمسين سنة . وقبره بحضرموت ، وقيل بالحجر من مكة ، فلما هلكوا أرسل الله طيرا سودا فنقلتهم إلى البحر ، فذلك قوله تعالى : فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم . ولم تخرج ريح قط إلا بمكيال إلا يومئذ فإنها عتت على الخزنة ، فذلك قوله فأهلكوا بريح صرصر عاتية . وكانت الريح تقلع الشجرة العظيمة بعروقها وتهدم البيت على من فيه .
وأما ثمود فهم ولد ثمود بن جاثر بن إرم بن سام ، وكانت مساكن ثمود بالحجر بين الحجاز ، والشام ، وكانوا بعد عاد قد كثروا ، وكفروا ، وعتوا ، فبعث الله إليهم صالح بن عبيد بن أسف بن ماشج بن عبيد بن جادر بن ثمود ، وقيل : أسف بن كماشج بن إرم بن ثمود - يدعوهم إلى توحيد الله تعالى وإفراده بالعبادة فقالوا يا صالح قد كنت فينا مرجوا قبل هذا الآية ، وكان الله قد أطال أعمارهم حتى إن كان أحدهم يبني البيت من المدر فينهدم وهو حي ، فلما رأوا ذلك اتخذوا من الجبال بيوتا فارهين فنحتوها ، وكانوا في سعة من معايشهم ، ولم يزل صالح يدعوهم فلم يتبعه منهم إلا قليل مستضعفون ، فلما ألح عليهم بالدعاء ، والتحذير ، والتخويف سألوه ، فقالوا : يا صالح ، اخرج [ ص: 83 ] معنا إلى عيدنا ، وكان لهم عيد يخرجون إليه بأصنامهم ، فأرنا آية فتدعو إلهك وندعو آلهتنا ، فإن استجيب لك اتبعناك وإن استجيب لنا اتبعتنا . فقال : نعم ، فخرجوا بأصنامهم ، وصالح معهم ، فدعوا أصنامهم أن لا يستجاب لصالح ما يدعو به ، وقال له سيد قومه : يا صالح ، أخرج لنا من هذه الصخرة لصخرة منفردة ناقة جوفاء عشراء ، فإن فعلت ذلك صدقناك .
فأخذ عليهم مواثيق بذلك ، وأتى الصخرة ، وصلى ، ودعا ربه - عز وجل - فإذا هي تتمخض كما تتمخض الحامل ، ثم انفجرت وخرجت من وسطها الناقة كما طلبوا وهم ينظرون ، ثم نتجت سقبا مثلها في العظم ، فآمن به سيد قومه ، واسمه جندع بن عمرو ، ورهط من قومه ، فلما خرجت الناقة قال لهم صالح : هذه ناقة لها شرب ولكم شرب يوم معلوم ، ومتى عقرتموها أهلككم الله . فكان شربها يوما وشربهم يوما معلوما ، فإذا كان يوم شربها خلوا بينها وبين الماء وحلبوها لبنها ، وملأوا كل وعاء ، وإناء ، وإذا كان يوم شربهم صرفوها عن الماء فلم تشرب منه شيئا وتزودوا من الماء للغد .
فأوحى الله إلى صالح أن قومك سيعقرون الناقة ، فقال لهم ذلك ، فقالوا : ما كنا لنفعل . قال : إلا تعقروها أنتم يوشك أن يولد فيكم مولود يعقرها . قالوا : وما علامته ؟ فوالله لا نجده إلا قتلناه ! قال : فإنه غلام أشقر ، أزرق ، أصهب ، أحمر . قال : فكان في المدينة شيخان عزيزان منيعان لأحدهما ابن رغب له عن المناكح ، وللآخر ابنة لا يجد لها كفؤا فزوج أحدهما ابنه بابنة الآخر فولد بينهما المولود ، فلما قال لهم صالح إنما يعقرها مولود فيكم اختاروا قوابل من القرية وجعلوا معهن شرطا يطوفون القرية فإذا وجدوا امرأة تلد نظروا ولدها ما هو ، فلما وجدوا ذلك المولود صرخ النسوة ، وقلن : هذا الذي يريد نبي الله صالح ، فأراد الشرط أن يأخذوه فحال جداه بينهم وبينه وقالا : لو أراد صالح هذا لقتلناه . فكان شر مولود وكان يشب في اليوم شباب غيره في الجمعة ، فاجتمع تسعة رهط منهم يفسدون في الأرض ولا يصلحون ، كانوا قتلوا أبناءهم حين ولدوا خوفا أن يكون عاقر الناقة منهم ، ثم ندموا فأقسموا ليقتلن صالحا ، وأهله ، وقالوا : نخرج فترى الناس أننا نريد السفر فنأتي الغار الذي على طريق صالح فنكون فيه ، فإذا جاء الليل وخرج صالح إلى مسجده قتلناه ، ثم رجعنا إلى الغار ، ثم انصرفنا إلى رحالنا ، وقلنا ما شهدنا قتله فيصدقنا قومه . وكان صالح لا يبيت معهم ، كان يخرج إلى مسجد له [ ص: 84 ] يعرف بمسجد صالح فيبيت فيه ، فلما دخلوا الغار سقطت عليهم صخرة فقتلتهم ، فانطلق رجال ممن عرف الحال إلى الغار فرأوهم هلكى ، فعادوا يصيحون : إن صالحا أمرهم بقتل أولادهم ، ثم قتلهم .
وقيل : إنما كان تقاسم التسعة على قتل صالح بعد عقر الناقة وإنذار صالح إياهم بالعذاب ، وذلك أن التسعة الذين عقروا الناقة قالوا : تعالوا فلنقتل صالحا فإن كان صادقا عجلنا قتله ، وإن كان كاذبا ألحقناه بالناقة ، فأتوه ليلا في أهله فدمغتهم الملائكة بالحجارة فهلكوا ، فأتى أصحابهم فرأوهم هلكى فقالوا لصالح : أنت قتلتهم ، وأرادوا قتله ، فمنعهم عشيرته وقالوا : إنه قد أنذركم العذاب ، فإن كان صادقا فلا تزيدوا ربكم غضبا ، وإن كان كاذبا فنحن نسلمه إليكم ، فعادوا عنه ، فعلى القول الأول يكون التسعة الذين تقاسموا غير الذين عقروا الناقة ، والثاني أصح ، والله أعلم .
وأما سبب قتل الناقة فقيل : إن قدار بن سالف جلس مع نفر يشربون الخمر فلم يقدروا على ماء يمزجون به خمرهم لأنه كان يوم شرب الناقة ، فحرض بعضهم بعضا على قتلها .
وقيل : إن ثمودا كان فيهم امرأتان يقال لإحداهما قطام ، وللأخرى قبال ، وكان قدار يهوى قطام ، ومصدع يهوى قبال ، ويجتمعان بهما ، ففي بعض الليالي قالتا لقدار ومصدع : لا سبيل لكما إلينا حتى تقتلا الناقة ، فقالا : نعم ، وخرجا وجمعا أصحابهما وقصدا الناقة وهي على حوضها ، فقال الشقي لأحدهم : اذهب فاعقرها ، فأتاها ، فتعاظمه ذلك ، فأضرب عنه ، وبعث آخر فأعظم ذلك وجعل لا يبعث أحدا إلا تعاظمه قتلها حتى مشى هو إليها فتطاول فضرب عرقوبها ، فوقعت تركض ، وكان قتلها يوم الأربعاء ، واسمه بلغتهم جبار ، وكان هلاكهم يوم الأحد ، وهو عندهم أول ، فلما قتلت أتى رجل منهم صالحا فقال : أدرك الناقة فقد عقروها ، فأقبل وخرجوا يتلقونه ، ويعتذرون إليه : يا نبي الله إنما عقرها فلان ، إنه لا ذنب لنا ! قال : انظروا هل تدركون فصيلها ؟ فإن أدركتموه فعسى الله أن يرفع عنكم العذاب . فخرجوا يطلبونه ، ولما رأى الفصيل أمه تضطرب قصد جبلا يقال له القارة قصيرا فصعده ، وذهبوا يطلبونه ، فأوحى الله إلى الجبل فطال في [ ص: 85 ] السماء حتى ما يناله الطير ، ودخل صالح القرية ، فلما رآه الفصيل بكى حتى سالت دموعه ثم استقبل صالحا فرغا ثلاثا ، فقال صالح : لكل رغوة أجل يوم تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب ، وآية العذاب أن وجوهكم تصبح في اليوم الأول مصفرة ، وتصبح في اليوم الثاني محمرة ، وتصبح في اليوم الثالث مسودة . فلما أصبحوا إذا وجوههم كأنما طليت بالخلوق صغيرهم وكبيرهم ، ذكرهم وأنثاهم ، فلما أصبحوا في اليوم الثاني إذا وجوههم محمرة ، فلما أصبحوا في اليوم الثالث إذا وجوههم مسودة كأنما طليت بالقار ، فتكفنوا وتحنطوا ، وكان حنوطهم الصبر ، والمر ، وكانت أكفانهم الأنطاع ، ثم ألقوا أنفسهم إلى الأرض فجعلوا يقلبون أبصارهم إلى السماء والأرض لا يدرون من أين يأتيهم العذاب ، فلما أصبحوا في اليوم الرابع أتتهم صيحة من السماء فيها صوت كالصاعقة ، فتقطعت قلوبهم في صدورهم فأصبحوا في ديارهم جاثمين وأهلك الله من كان بين المشارق والمغارب منهم إلا رجلا كان في الحرم فمنعه الحرم . قيل : ومن هو ؟ قيل : هو أبو رغال ، وهو أبو ثقيف في قول .
ولما سار النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى تبوك أتى على قرية ثمود ، فقال لأصحابه : لا يدخلن أحد منكم القرية ولا تشربوا من مائها ، وأراهم مرتقى الفصيل في الجبل ، وأراهم الفج الذي كانت الناقة ترد منه الماء .
وأما صالح - عليه السلام - فإنه سار إلى الشام ، فنزل فلسطين ، ثم انتقل إلى مكة فأقام بها يعبد الله حتى مات ، وهو ابن ثمان وخمسين سنة ، وكان قد أقام في قومه يدعوهم عشرين سنة .
وأما أهل التوراة فإنهم يزعمون أنه لا ذكر لعاد ، وهود ، وثمود ، وصالح في التوراة ، قال : وأمرهم عند العرب في الجاهلية والإسلام كشهرة إبراهيم الخليل - عليه السلام - .
قلت : وليس إنكارهم ذلك بأعجب من إنكارهم نبوة إبراهيم الخليل ورسالته ، وكذلك إنكارهم حال المسيح - عليه السلام - .
فأما عاد فهو عاد بن عوض بن إرم بن سام بن نوح ، وهو عاد الأولى ، وكانت مساكنهم ما بين الشحر ، وعمان ، وحضرموت بالأحقاف ، فكانوا جبارين طوال القامة لم يكن مثلهم ، يقول الله تعالى : واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح وزادكم في الخلق بسطة ، فأرسل الله إليهم هود بن عبد الله بن رباح بن الجلود بن عاد بن عوض .
ومن الناس من يزعم أنه هود وهو غابر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح ، وكانوا أهل أوثان ثلاثة ، يقال لأحدها ضرا ، وللآخر ضمور ، وللثالث الهبا ، فدعاهم إلى توحيد الله ، وإفراده بالعبادة دون غيره ، وترك ظلم الناس ، فكذبوه ، وقالوا : من أشد منا قوة ! ولم يؤمن بهود منهم إلا قليل .
وكان من أمرهم ما ذكره ابن إسحاق قال : إن عادا أصابهم قحط تتابع عليهم بتكذيبهم هودا ، فلما أصابهم قالوا : جهزوا منكم وفدا إلى مكة يستسقون لكم ، فبعثوا [ ص: 80 ] قيل بن عير ، ولقيم بن هزال ، ومرثد بن سعد ، وكان مسلما يكتم إسلامه ، وجلهمة بن الخيبري خال معاوية بن بكر ، ولقمان بن عاد بن فلان بن عاد الأكبر في سبعين رجلا من قومهم ، فلما قدموا مكة نزلوا على معاوية بن بكر بظاهر مكة خارجا عن الحرم ، فأكرمهم ، وكانوا أخواله وصهره لأن لقيم بن هزال كان تزوج هزيلة بنت بكر أخت معاوية ، فأولدها أولادا كانوا عند خالهم معاوية بمكة ، وهم عبيد ، وعمرو ، وعامر ، وعمير بنو لقيم ، وهو عاد الآخرة التي بقيت بعد عاد الأولى ، فلما نزلوا على معاوية أقاموا عنده شهرا يشربون الخمر وتغنيهم الجرادتان - قينتان لمعاوية - فلما رأى معاوية طول مقامهم وتركهم ما أرسلوا له شق عليه ذلك ، وقال : هلك أخوالي ، واستحيا أن يأمر الوفد بالخروج إلى ما بعثوا له ، فذكر ذلك للجرادتين فقالتا : قل شعرا نغنيهم به لا يدرون من قائله لعلهم يتحركون ; فقال معاوية :
ألا يا قيل ويحك قم فهينم لعل الله يصبحنا غماما فيسقي أرض عاد إن عادا
قد امسوا لا يبينون الكلاما
في أبيات ذكرها . والهينمة : الكلام الخفي .
فلما غنتهم الجرادتان ذلك الشعر وسمعه القوم ، قال بعضهم لبعض : يا قوم ، بعثكم قومكم يتغوثون بكم من البلاء الذي نزل بهم فأبطأتم عليهم فادخلوا الحرم ، واستسقوا لقومكم . فقال مرثد بن سعد : إنهم والله لا يسقون بدعائهم ، ولكن أطيعوا نبيكم ، فأنتم تسقون ، وأظهر إسلامه عند ذلك . فقال جلهمة بن الخيبري خال معاوية ، لمعاوية بن بكر : احبس عنا مرثد بن سعد . وخرجوا إلى مكة يستسقون بها لعاد ، فدعوا الله تعالى لقومهم ، واستسقوا ، فأنشأ الله سحائب ثلاثا بيضاء ، وحمراء ، وسوداء ، ونادى مناد منها : يا قيل ، اختر لنفسك وقومك . فقال : قد اخترت السحابة السوداء فإنها أكثر ماء ، فناداه [ ص: 81 ] مناد اختر رمادا رمدادا ، لا تبقي من عاد أحدا ، لا ولدا تترك ولا والدا إلا جعلته همدا ، إلا بني اللوذية المهدى .
وبنو اللوذية : بنو لقيم بن هزال ، كانوا بمكة عند خالهم معاوية بن بكر .
وساق الله السحابة السوداء بما فيها من العذاب إلى عاد ، فخرجت عليهم من واد يقال له المغيث ، فلما رأوها استبشروا بها وقالوا : هذا عارض ممطرنا يقول الله تعالى : بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم تدمر كل شيء بأمر ربها أي كل شيء أمرت به . وكان أول من رأى ما فيها وعرف أنها ريح مهلكة امرأة من عاد يقال لها فهدد ، فلما رأت ما فيها صاحت وصعقت ، فلما أفاقت قالوا : ماذا رأيت ؟ قالت : رأيت ريحا فيها كشهب النار أمامها رجال يقودونها ، فلما خرجت الريح من الوادي قال سبعة رهط منهم ، أحدهم الخلجان : تعالوا حتى نقوم على شفير الوادي فنردها . فجعلت الريح تدخل تحت الواحد منهم فتحمله فتدق عنقه ، وبقي الخلجان فمال إلى الجبل وقال :
لم يبق إلا الخلجان نفسه يا لك من يوم دهاني أمسه
بثابت الوطء شديد وطسه لو لم يجئني جئته أجسه
فقال له هود : أسلم تسلم . فقال : وما لي ؟ قال : الجنة . فقال : فما هؤلاء الذين في السحاب كأنهم البخت ؟ قال : الملائكة . قال : أيعيذني ربك منهم إن أسلمت ؟ قال : هل رأيت ملكا يعيذ من جنده ؟ قال : لو فعل ما رضيت .
ثم جاءت الريح وألحقته بأصحابه و سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما ، كما قال تعالى . والحسوم : الدائمة . فلم تدع من عاد أحدا إلا هلك ، واعتزل هود والمؤمنون في حظيرة لم يصبه ومن معه منها إلا تليين الجلود ، وإنها لتمر [ ص: 82 ] من عاد بالظعن وما بين السماء والأرض وتدمغهم بالحجارة . وعاد وفد عاد إلى معاوية بن بكر فنزلوا عليه ، فأتاهم رجل على ناقة فأخبرهم بمصاب عاد وسلامة هود .
قال : وكان قد قيل للقمان بن عاد : اختر لنفسك إلا أنه لا سبيل إلى الخلود . فقال : يا رب أعطني عمرا . فقيل له : اختر . فاختار عمر سبعة أنسر . فعمر فيما يزعمون عمر سبعة أنسر ، فكان يأخذ الفرخ الذكر حين يخرج من بيضته حتى إذا مات أخذ غيره ، وكان يعيش كل نسر ثمانين سنة ، فلما مات السابع مات لقمان معه ، وكان السابع يسمى لبدا . قال : وكان عمر هود مائة وخمسين سنة . وقبره بحضرموت ، وقيل بالحجر من مكة ، فلما هلكوا أرسل الله طيرا سودا فنقلتهم إلى البحر ، فذلك قوله تعالى : فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم . ولم تخرج ريح قط إلا بمكيال إلا يومئذ فإنها عتت على الخزنة ، فذلك قوله فأهلكوا بريح صرصر عاتية . وكانت الريح تقلع الشجرة العظيمة بعروقها وتهدم البيت على من فيه .
وأما ثمود فهم ولد ثمود بن جاثر بن إرم بن سام ، وكانت مساكن ثمود بالحجر بين الحجاز ، والشام ، وكانوا بعد عاد قد كثروا ، وكفروا ، وعتوا ، فبعث الله إليهم صالح بن عبيد بن أسف بن ماشج بن عبيد بن جادر بن ثمود ، وقيل : أسف بن كماشج بن إرم بن ثمود - يدعوهم إلى توحيد الله تعالى وإفراده بالعبادة فقالوا يا صالح قد كنت فينا مرجوا قبل هذا الآية ، وكان الله قد أطال أعمارهم حتى إن كان أحدهم يبني البيت من المدر فينهدم وهو حي ، فلما رأوا ذلك اتخذوا من الجبال بيوتا فارهين فنحتوها ، وكانوا في سعة من معايشهم ، ولم يزل صالح يدعوهم فلم يتبعه منهم إلا قليل مستضعفون ، فلما ألح عليهم بالدعاء ، والتحذير ، والتخويف سألوه ، فقالوا : يا صالح ، اخرج [ ص: 83 ] معنا إلى عيدنا ، وكان لهم عيد يخرجون إليه بأصنامهم ، فأرنا آية فتدعو إلهك وندعو آلهتنا ، فإن استجيب لك اتبعناك وإن استجيب لنا اتبعتنا . فقال : نعم ، فخرجوا بأصنامهم ، وصالح معهم ، فدعوا أصنامهم أن لا يستجاب لصالح ما يدعو به ، وقال له سيد قومه : يا صالح ، أخرج لنا من هذه الصخرة لصخرة منفردة ناقة جوفاء عشراء ، فإن فعلت ذلك صدقناك .
فأخذ عليهم مواثيق بذلك ، وأتى الصخرة ، وصلى ، ودعا ربه - عز وجل - فإذا هي تتمخض كما تتمخض الحامل ، ثم انفجرت وخرجت من وسطها الناقة كما طلبوا وهم ينظرون ، ثم نتجت سقبا مثلها في العظم ، فآمن به سيد قومه ، واسمه جندع بن عمرو ، ورهط من قومه ، فلما خرجت الناقة قال لهم صالح : هذه ناقة لها شرب ولكم شرب يوم معلوم ، ومتى عقرتموها أهلككم الله . فكان شربها يوما وشربهم يوما معلوما ، فإذا كان يوم شربها خلوا بينها وبين الماء وحلبوها لبنها ، وملأوا كل وعاء ، وإناء ، وإذا كان يوم شربهم صرفوها عن الماء فلم تشرب منه شيئا وتزودوا من الماء للغد .
فأوحى الله إلى صالح أن قومك سيعقرون الناقة ، فقال لهم ذلك ، فقالوا : ما كنا لنفعل . قال : إلا تعقروها أنتم يوشك أن يولد فيكم مولود يعقرها . قالوا : وما علامته ؟ فوالله لا نجده إلا قتلناه ! قال : فإنه غلام أشقر ، أزرق ، أصهب ، أحمر . قال : فكان في المدينة شيخان عزيزان منيعان لأحدهما ابن رغب له عن المناكح ، وللآخر ابنة لا يجد لها كفؤا فزوج أحدهما ابنه بابنة الآخر فولد بينهما المولود ، فلما قال لهم صالح إنما يعقرها مولود فيكم اختاروا قوابل من القرية وجعلوا معهن شرطا يطوفون القرية فإذا وجدوا امرأة تلد نظروا ولدها ما هو ، فلما وجدوا ذلك المولود صرخ النسوة ، وقلن : هذا الذي يريد نبي الله صالح ، فأراد الشرط أن يأخذوه فحال جداه بينهم وبينه وقالا : لو أراد صالح هذا لقتلناه . فكان شر مولود وكان يشب في اليوم شباب غيره في الجمعة ، فاجتمع تسعة رهط منهم يفسدون في الأرض ولا يصلحون ، كانوا قتلوا أبناءهم حين ولدوا خوفا أن يكون عاقر الناقة منهم ، ثم ندموا فأقسموا ليقتلن صالحا ، وأهله ، وقالوا : نخرج فترى الناس أننا نريد السفر فنأتي الغار الذي على طريق صالح فنكون فيه ، فإذا جاء الليل وخرج صالح إلى مسجده قتلناه ، ثم رجعنا إلى الغار ، ثم انصرفنا إلى رحالنا ، وقلنا ما شهدنا قتله فيصدقنا قومه . وكان صالح لا يبيت معهم ، كان يخرج إلى مسجد له [ ص: 84 ] يعرف بمسجد صالح فيبيت فيه ، فلما دخلوا الغار سقطت عليهم صخرة فقتلتهم ، فانطلق رجال ممن عرف الحال إلى الغار فرأوهم هلكى ، فعادوا يصيحون : إن صالحا أمرهم بقتل أولادهم ، ثم قتلهم .
وقيل : إنما كان تقاسم التسعة على قتل صالح بعد عقر الناقة وإنذار صالح إياهم بالعذاب ، وذلك أن التسعة الذين عقروا الناقة قالوا : تعالوا فلنقتل صالحا فإن كان صادقا عجلنا قتله ، وإن كان كاذبا ألحقناه بالناقة ، فأتوه ليلا في أهله فدمغتهم الملائكة بالحجارة فهلكوا ، فأتى أصحابهم فرأوهم هلكى فقالوا لصالح : أنت قتلتهم ، وأرادوا قتله ، فمنعهم عشيرته وقالوا : إنه قد أنذركم العذاب ، فإن كان صادقا فلا تزيدوا ربكم غضبا ، وإن كان كاذبا فنحن نسلمه إليكم ، فعادوا عنه ، فعلى القول الأول يكون التسعة الذين تقاسموا غير الذين عقروا الناقة ، والثاني أصح ، والله أعلم .
وأما سبب قتل الناقة فقيل : إن قدار بن سالف جلس مع نفر يشربون الخمر فلم يقدروا على ماء يمزجون به خمرهم لأنه كان يوم شرب الناقة ، فحرض بعضهم بعضا على قتلها .
وقيل : إن ثمودا كان فيهم امرأتان يقال لإحداهما قطام ، وللأخرى قبال ، وكان قدار يهوى قطام ، ومصدع يهوى قبال ، ويجتمعان بهما ، ففي بعض الليالي قالتا لقدار ومصدع : لا سبيل لكما إلينا حتى تقتلا الناقة ، فقالا : نعم ، وخرجا وجمعا أصحابهما وقصدا الناقة وهي على حوضها ، فقال الشقي لأحدهم : اذهب فاعقرها ، فأتاها ، فتعاظمه ذلك ، فأضرب عنه ، وبعث آخر فأعظم ذلك وجعل لا يبعث أحدا إلا تعاظمه قتلها حتى مشى هو إليها فتطاول فضرب عرقوبها ، فوقعت تركض ، وكان قتلها يوم الأربعاء ، واسمه بلغتهم جبار ، وكان هلاكهم يوم الأحد ، وهو عندهم أول ، فلما قتلت أتى رجل منهم صالحا فقال : أدرك الناقة فقد عقروها ، فأقبل وخرجوا يتلقونه ، ويعتذرون إليه : يا نبي الله إنما عقرها فلان ، إنه لا ذنب لنا ! قال : انظروا هل تدركون فصيلها ؟ فإن أدركتموه فعسى الله أن يرفع عنكم العذاب . فخرجوا يطلبونه ، ولما رأى الفصيل أمه تضطرب قصد جبلا يقال له القارة قصيرا فصعده ، وذهبوا يطلبونه ، فأوحى الله إلى الجبل فطال في [ ص: 85 ] السماء حتى ما يناله الطير ، ودخل صالح القرية ، فلما رآه الفصيل بكى حتى سالت دموعه ثم استقبل صالحا فرغا ثلاثا ، فقال صالح : لكل رغوة أجل يوم تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب ، وآية العذاب أن وجوهكم تصبح في اليوم الأول مصفرة ، وتصبح في اليوم الثاني محمرة ، وتصبح في اليوم الثالث مسودة . فلما أصبحوا إذا وجوههم كأنما طليت بالخلوق صغيرهم وكبيرهم ، ذكرهم وأنثاهم ، فلما أصبحوا في اليوم الثاني إذا وجوههم محمرة ، فلما أصبحوا في اليوم الثالث إذا وجوههم مسودة كأنما طليت بالقار ، فتكفنوا وتحنطوا ، وكان حنوطهم الصبر ، والمر ، وكانت أكفانهم الأنطاع ، ثم ألقوا أنفسهم إلى الأرض فجعلوا يقلبون أبصارهم إلى السماء والأرض لا يدرون من أين يأتيهم العذاب ، فلما أصبحوا في اليوم الرابع أتتهم صيحة من السماء فيها صوت كالصاعقة ، فتقطعت قلوبهم في صدورهم فأصبحوا في ديارهم جاثمين وأهلك الله من كان بين المشارق والمغارب منهم إلا رجلا كان في الحرم فمنعه الحرم . قيل : ومن هو ؟ قيل : هو أبو رغال ، وهو أبو ثقيف في قول .
ولما سار النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى تبوك أتى على قرية ثمود ، فقال لأصحابه : لا يدخلن أحد منكم القرية ولا تشربوا من مائها ، وأراهم مرتقى الفصيل في الجبل ، وأراهم الفج الذي كانت الناقة ترد منه الماء .
وأما صالح - عليه السلام - فإنه سار إلى الشام ، فنزل فلسطين ، ثم انتقل إلى مكة فأقام بها يعبد الله حتى مات ، وهو ابن ثمان وخمسين سنة ، وكان قد أقام في قومه يدعوهم عشرين سنة .
وأما أهل التوراة فإنهم يزعمون أنه لا ذكر لعاد ، وهود ، وثمود ، وصالح في التوراة ، قال : وأمرهم عند العرب في الجاهلية والإسلام كشهرة إبراهيم الخليل - عليه السلام - .
قلت : وليس إنكارهم ذلك بأعجب من إنكارهم نبوة إبراهيم الخليل ورسالته ، وكذلك إنكارهم حال المسيح - عليه السلام - .