ذكرنا ثلاثة من أصول النفاق، وأصول النفاق وأركانه كما جاء في الأحاديث الصحيحة خمسة، ذكرنا الكذب في الحديث، والخيانة في الأمانة، والغدر في العهد، وبقي من خصال النفاق خَصلتان، إذا وعد أخلف، وإذا خاصم فجر...
حكم المحكمة لا يحل حراما
د. يوسف القرضاوي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن اتَّبع هداه.
(وبعد)
"اللهم إني أعوذ بك من الشقاق والنفاق وسوء الأخلاق"([1]).
أصول النفاق خمسة:
ذكرنا ثلاثة من أصول النفاق، وأصول النفاق وأركانه كما جاء في الأحاديث الصحيحة خمسة، ذكرنا الكذب في الحديث، والخيانة في الأمانة، والغدر في العهد، وبقي من خصال النفاق خَصلتان، إذا وعد أخلف، وإذا خاصم فجر.
احترام الوعد واجب:
وإخلاف العهد هو باب من نكث العهد، هو نوع من نقض الميثاق، الوعد إذا وعدتَ ينبغي أن تحترمه، (وَعْدُ الحرِّ دين عليه). الإنسان يُحاسب على الكلمة تخرج منه، لا يَعِدُ وعودًا ثم لا يفي بها، فهذا ليس من شأن الإنسان المؤمن، بل ليس من شأن الرجل الحرِّ، ولهذا قال العرب: إخلاف الوعد من أخلاق الوغد. أي أخلاق الإنسان الدَّنيء السفيه، الذي يملأ المجالس بالكلام يقوله لهذا وذاك، ولا ينفِّذ منه شيئًا. أما الإنسان الرجل، والإنسان المؤمن، فهو الذي يحترم كلمته، ولهذا قال الشاعر العربي قديمًا:
ولا أقول نعمًا يومًا وَأُتبعها بلا
ولو ذهبت بالمال والولد
لا أقول نعمًا يوما فأُتبعها بلا، أنفي ما أثبتُّه، وأُنكر ما قلته، قلتُ: نعم سأعطيك كذا، سأفعل لك كذا، ولا أقول نعمًا يومًا وأتبعها بلا، ولو ذهبت بالمال والولد، ولو كلَّفني ذلك مالي وأولادي وحياتي، هؤلاء هم الرجال.
ويقول الشاعر الآخر:
إذا قلتَ في شيء نعم فأتمَّه
فإن نعم دين على الحرِّ واجب
وإلا فقُل لا تَسْتَرِحْ وتُرِح بها
لئلا يقول الناس إنك كاذب[2]
لا تعطي وعدًا لا تستطع الوفاء به:
لا تُوَرِّط نفسك من أوَّل الأمر، إذا كنتَ لستَ من الرجال أولي العزم، الذين يَصدُقون إذا قالوا، ويَفون إذا وعدوا، لا تكن من الَّذين يقولون ولا يفعلون، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف:2-3]، فإن الله سبحانه وتعالى ذمَّ المنافقين بقوله: {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [التوبة:77].
وحكى لنا على لسان إبليس لعنه الله، أنه قال يوم القيامة متبرِّأ ممَّن اتَّبعوه وساروا في طريقه، قال: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي} [إبراهيم:22]، الله وعدكم وعد الحقِّ ووفَّى بوعده، {هَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ} [الأعراف:44]، ووعدتكم فأخلفتكم، ولذلك الَّذي يخلف وعده لا يقتدي بخلق الرَّحمن، إنَّما يقتدي بخلق الشيطان، الله يَعِد فيُنجز، {وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا}[الكهف: 98]، {وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ}[الزمر:20]، ولكن الشيطان يَعِد فيُخلف، يضحك عليك، {يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا} [النساء:120].
إخلاف الوعد بغير عذر حرام:
ولهذا كان الوعد لازمًا، وكان إخلاف الوعد بغير عذرٍ حراما، إذا وعد الإنسان آخر وفي نيَّته أن يُخلف، ليس في نيَّته أن يفي وينجز، فهذا حرام من أوَّل الأمر، أما إذا وعد وكان في نيَّته أن يفي، ثم بدا له شيء، ولم يَهُن عليه أن يفي بما وعد، فأيضًا هاهنا تأتي الحرمة، بل بعضهم جعله كبيرة؛ لأنه من أركان النفاق.
عندما حضر عبدَ الله بن عمر الوفاةُ، قال: انظروا فلانا - لرجل من قريش - فإني كنت قلت له في ابنتي قولا كشبيه الْعِدَّةِ وما أحب أن ألقى الله عز وجل بثلث النفاق وأشهدكم أني قد زوجته([3]).
أعطى شبه وعد، ولا بدَّ أنه قد عرَف رأي ابنته؛ لأنه لا يجوز للإنسان أن يُزوِّجَ ابنته بغير رضاها، ولا بإذنها ولو بالسكوت، لا أريد أن ألقى الله بثلث النفاق.
الوفاء بالوعد واجب ولو ترتب عليه كلفة:
ولهذا كان القول الصحيح من أقوال الفقهاء: أن الإنسان إذا وعد وعدًا، ترتَّب عليه كُلفة ونفقة ومشقَّة، فلا بدَّ أن يفي بهذا الوعد، كما قال المالكيَّة، وكما قضى به بعض قضاة السَّلف، وكما هو الظَّاهر من مذهب الإمام البخاري[4]. قال رجل لرجل: افعل كذا وسأشتريه منك، هات لي كذا وسآخذه منك، أو ابنِ لي بيتًا بالمواصفات الفلانية، وسأستأجرها منك. وفعل هذا يجب عليه أن يفي به، ويحرم عليه أن يُخلفه، تكلِّفني هذا كلَّه ثم ترجع عما قلتَ!
الجَعَالة من الوعد الذي يجب الوفاء به:
ولهذا من جعل جَعَالة، ووعد بشيء في المسابقات، مثلا لو قالت وزارة الأوقاف: مَن حفظ القرآن فله كذا. أو لو قالت وزارة التربية: مَن حقَّق كذا فله كذا. ودخل الناس المسابقة على هذا الأساس، فهل لهم أن يرجعوا عمَّا أعلنوه؟ الأصل في الوعد أنَّه ملزم، ما لم يكن هناك عذر شرعيٌّ يمنع منه.
الوعيد الشديد في نقض العهد:
إخلاف الوعد من باب نقض العهد، وإن نقض العهد أوثق وأوجب، ولذلك كان الوعيد فيه أشدُّ، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "إن الغادر ينصب له لواء يوم القيامة، فيقال: هذه غدرة فلان بن فلان"([5])، يُنصب لكلِّ غادر يوم القيامة لواء، تُرفع له راية، يُفضح بها على رؤوس الأشهاد، هذه غدرة، عاهد عهدًا فغدر.
ويقول النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم، فيما يرويه عن ربِّه من الحديث القدسي: "قال الله تعالى: ثلاثةٌ أنا خصمهم يوم القيامة، ومَن كنتُ خصمه خصمتُه"، مَن كان الله خصمه فلا بدَّ أن يُخصم ويُقهر ويُغلب، "رجل أعطى بي ثم غدر"، أعطى عهدًا بالله، باسم الله، على عهد الله وميثاقه، ثم غدر ونكث في هذا العهد، "رجل أعطى بي ثمَّ غدر، ورجل باع حرًّا فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرًا فاستوفى منه ولم يعطه أجره"([6])، استوفى منه عمله، ولم يوفِّه أجره، فهذا من خصماء الله تعالى يوم القيامة.
الفجور في الخصومة:
بقيت خصلة أخيرة من خصال النفاق، كما بيَّنتها صحاح الأحاديث: وهي الفجور في الخصومة، إذا خاصم فجر.
إذا كان بينه وبين إنسانٍ خلاف وخصومة، لم يقف عند حدود الحقِّ، وإنما يتعدَّاه إلى الباطل، لا يُبالي أن يكذب، لا يبالي أن يفتري، لا يبالي أن يُزيِّن دعواه بالأباطيل، بالأيمان الكاذبة، يحاول أن يجعل الحقَّ في صورة الباطل، والباطل في صورة الحقِّ، حتى يكسب المعركة مع خصمه، هذا هو الفجور في الخصومة، خصوصًا إذا كان ذا بيان وذا لِسان، وكان عنده قدرة على أن يُزيِّف الحقائق، هذا الذي جاء به الحديث الصحيح: " إنما أنا بشر، وإنه يأتيني الخصم، فلعل بعضكم أن يكون أبلغ من بعض، - يكون أفصح وأبين لسانًا - فأحسب أنه صدق، فأقضي له بذلك". لأن القاضي يقضي بالظاهر، والله يتولى السرائر، فأقضي له على نحو ما أسمع، "فمن قضيت له بحق أخيه شيئا، بقوله: فإنما أقطع له قطعة من النار فلا يأخذها"([7]).
حكم المحكمة لا يُحِلُّ حرامًا:
الذي يخاصم ويُزيِّن أمره ليغلب خصمه بالباطل، وترتَّب على ذلك أن المحكمة حكمت له، لا يظنُّ أن حكم المحكمة يُحِلُّ له الحرام، لا، حتى ولو كان القاضي هو رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، لأنه يقول: أنا أقضي على نحو ما أسمع، فهذا استغلَّ ضعف خصمه، لعله لم يكن له بيِّنة، ولم يكن قادرًا على الدفاع عن حقِّه. هذه هي الخصومة بالباطل، الإنسان يخاصم بالباطل، يفجُر في الخصومة، هناك أناسٌ إذا خاصموا فجروا، لم يبالوا أن يرتكبوا أيِّ شيء في سبيل أن ينتصروا، هم يُجلِبون عليك بخيلهم ورجلهم، ليكسبوا الأمر من خصومهم.
المسلم يعدل مع من يُحبُّ ومن يكره:
المطلوب من الإنسان المسلم أن يكون عدلاً منصفًا مع مَن يحبُّ ومع مَن يكره، الله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المائدة: 8]، لا يجرمنَّكم: لا يحملنَّكم. شنآن قوم: الشنآن، شدَّة العداوة والبغض. أي مهما كانت عداوتكم لهم، وشدَّة بغضكم لهم، أو شدَّة بغضهم لكم، فلا يحملنَّكم هذا على ألاَّ تعدلوا، اعدلوا هو أقرب للتقوى.
اعدل مع قريبك ومع البعيد عنك، اعدل مع صديقك ومع عدوك، اعدل مع المسلم ومع الكافر. العدل للنَّاس جميعًا، عدل الله لكلِّ عباد الله.
القرآن ينتصر ليهوديِّ اتُّهم بالسرقة ظلمًا:
نزلت تسع آيات من القرآن تدافع عن يهودي اتُّهم بالسرقة ظلمًا، ولم يكن قد سرق، وإنما كان السارق بعض المنافقين، أو ضعفاء الإيمان من المسلمين، وحاول الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم أن يدافع عن هؤلاء المسلمين، استبعادا منه أن تقع الجريمة من مسلم، ضدَّ ذلك اليهودي[8]، فنزل القرآن يخاطب رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا * وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا * وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا * يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا * هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا * وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا * وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا * وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [النساء:105-112].
ولهذا يحرم على المسلم أن يخاصم بالباطل، كما قال النبي صلَّى الله عليه وسلَّم: "من خاصم في باطل وهو يعلمه، لم يزل في سخط الله حتى يَنْزِعَ "([9])، حتى يُقلِع ويرجع عن هذه الخصومة بالباطل، ما دام يعلم ذلك.
الإعانة على الخصومة بالباطل:
ومثل المخاصم بالباطل: المُعين في الخصومة، مَن أعان على خصومة بظلم، لم يزل في سخط الله حتى ينزع، وفي بعض الحديث: " من أعان ظالما بباطل ليدحض بباطله حقا فقد برئ من ذمة الله وذمة رسوله"([10]).
من هنا تكون مصيبة الذين يشتغلون بالمحاماة، ويُخاصمون في قضايا يعلمون أنها باطلة، فيقف يدافع عن موكِّله، وهو يعلم أنه مجرم، ويحاول أن يُبطِل حُجَّة خصمه، وهو يعلم أنه محقٌّ، فهذا الذي يُعِين على الخصومة بالباطل، من أجل أن يكسب دراهم أو دنانير، هي متاع قليل، {مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ} [البقرة:174].
الخصومة في الفكر:
الخصومة بالباطل قد تكون في أمر مادِّي، وقد تكون الخصومة في أمر معنويٍّ، كما تكون الخصومة في المال، تكون الخصومة في الرأيِّ والفكر، هناك أناسٌ يخاصمونك في رأيك، لهم وجهة نظرٍ غير وجهتك، ولهم رأي غير رأيك، فلا يمنع هؤلاء أن يتقوَّلوا عليك الأقاويل، ويفتروا عليك الأكاذيب، ويُشوِّهوا صورتك عند النَّاس. هذا للأسف ما يحدث بين كثير من المختلفين في الآراء بعضهم وبعض.
والمؤمن يجب أن يلتزم الحقَّ في كلِّ خصوماته، كما قلتُ حتى مع غير المسلمين، مع الكافر والمسلم سواء، لأن عدل الله لا يتجزَّأ، عدل الله لكلِّ الناس جميعًا.
النبيُّ وأصحابه يلتزمون الحق في الخصومات:
هكذا كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، وهكذا كان أصحابه رضوان الله عليهم، كانوا لا يفرِّقون بين الناس في الخصومة، حتى إن اليهود والنصارى كانوا يقفون أمام القاضي كما يقف كبار المسلمين وكبار الصحابة والأمراء والخلفاء أنفسهم، حتى إن عليًّا بن أبي طالب أنكر على القاضي شُريحًا حينما كان مع خصم له قال له القاضي: يا أبا الحسن. فاعتبر هذه الكلمة نوعًا من التكريم في مجلس القضاء، فلينادِه باسمه مجرَّدًا.
وحينما ذهب عبد الله بن ابن رواحة إلى اليهود يَخرِص نخيلهم، فقد كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم عامل يهود خيبر على أن يزرعوا خيبر، ويقوموا بأمرها ولهم نصف الثمرة، وكيف يُحَدَّد نصف الثمرة؟ كان يُحدَّد بطريقة اسمها الخرص: تقديرٌ تقريبيٌّ من الخبراء. يقول: هذه النخيل فيها كذا وكذا من التمور. فأراد اليهود أن يَرشُوا عبد الله بن رواحة؛ ليخفِّف عليهم، بدل أن يقول: في هذه النخيل عشرة آلاف من وسق أو غير ذلك، يجعلها خمسة آلاف أو نحو ذلك. أرادوا أن يستميلوه على طريقتهم بالرشوة والمال، فقال لهم عبد الله: يا معشر اليهود، أنتم أبغض الخلق إليَّ، قتلتم أنبياء الله عزَّ وجلَّ، وكذبتم على الله، وليس يحملني بغضي إياكم على أن أحيف عليكم، قد خرصت عشرين ألف وسق من تمر، فإن شئتم فلكم، وإن أبيتم فلي. فقالوا: بهذا قامت السماوات والأرض، قد أخذنا([11]).
أترشونني يا أعداء الله، والله إنكم لأبغض إليَّ من القردة والخنازير، وإن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم لأحبُّ إليَّ من نفسي، ولكن هذا لا يجعلني أحيف عليكم مثقال ذرَّة، أكرهكم وأحبُّ رسول الله، ولكن لا يجعلني حبِّي رسول الله أن أعطي له، وأجعل له، وهو صلَّى الله عليه وسلَّم هو رئيس الدولة ما لا يحقُّ له، وآخذ منكم ما لا يجوز لي.
هذا هو العدل الذي قامت به السموات والأرض، الخصومة لا تجعل الإنسان يفجر على خَصمه، ويدَّعي عليه ما ليس بحقٍّ، بل يقول الحقَّ في شأنه، الماديِّ وحقِّه الأدبي.
سمع عمرو بن العاص رضي الله عنه من أحد الصحابة المستورد القرشي، أنه سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "تقوم الساعة والروم أكثر الناس" - العرب يسمون كلُّ من كان جهة الشمال والغرب من البيزنطيين والأوربيين وغير هؤلاء، كل هؤلاء روم - تقوم الساعة والروم أكثر أهل الأرض. فقال له عمرو: أبصر ما تقول. قال: أقول ما سمعتُ من رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: لئن قلتَ ذلك، إن فيهم لخصالا أربعا: إنَّهم لأحلم الناس عند فتنة، وأسرعهم إفاقة بعد مصيبة، وأوشكهم كَرَّة بعد فرَّة، وخيرهم لمسكين ويتيم وضعيف، وخامسة حسنة جميلة: وأمنعهم من ظلم الملوك([12]).
عمرو بن العاص الذي واجه الروم في مصر، وواجهم في فلسطين، وواجهم في معارك حامية، لم يمنعه ذلك أن يعترف لهم بما فيهم من خصالٍ حسنة، تجعلهم أهلاً لئن يكون لهم شأنٌ في هذه الدُّنيا.
هكذا ينبغي أن يعرف الناس خصومهم على حقيقتهم.
ضياع الحقيقة بين التهوين والتهويل:
للأسف في شأن خصومنا، تضيع الحقيقة عندنا بين التَّهوين والتَّهويل، إما أن نُهوِّن من أمرهم، ولا نجعل لهم قيمة، وإما أن نُهوِّل ونُضخِّم ونجعل الدنيا في كفِّهم، ونجعل أنفسنا أحجارًا على رقعة الشطرنج. هذا كلُّه ليس من العدل، ولا من الإنصاف في شيء.
الإسلام يربِّي المسلم على أن يقول الحقيقة لا يتعدَّاها، سواء إذا تحدَّث عن نفسه، أو تحدَّث عن خصومه، فهو مُنصف دائمًا، عدلٌ دائمًا، لا يخرجه الغضب عن قول الحقِّ، إذا غضب لم يخرجه الغضب عن الحقِّ، وإذا رضي لم يدخله الرضى في الباطل، إذا أحبَّ أو كره كان مع الحقِّ حيث كان، وهذه هي خصال المؤمنين.
أما خصال المنافقين فهي: إذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر.
هذه هي خصال النفاق: إذا حدَّث كذب، وإذا ائتُمن خان، وإذا عاهد غدر. نعوذ بالله من أن نكون من المنافقين، أو نكون ظهيرًا للمنافقين، اللهم آمين.
ـــــــ
[1]- رواه أبو داود في الصلاة (1546)، النسائي في الاستعاذة (5471)، وضعفه الألباني في ضعيف أبي داود (332)، عن أبي هريرة.
[2] - من شعر أبي تمام.
[3]- رواه الفريابي في صفة النفاق (19).
[4]- صحيح البخاري كتاب الشهادات باب من أمر بإنجاز الوعد (3/180). وانظر: فتح الباري (5/290).
[5]- متفق عليه : رواه البخاري في الأدب (6178)، ومسلم في الجهاد والسير (1735)، عن ابن عمر.
[6]- رواه البخاري البيوع (2227)، وأحمد (8692)، عن أبي هريرة.
[7]- متفق عليه : رواه البخاري في الشهادات (2680)، ومسلم في الحدود (1713)، عن أمِّ سلمة.
[8] - إشارة إلى الحديث الطويل : " كان أهل بيت منا يقال لهم: بنو أبيرق بشر وبشير ومبشر، وكان بشير رجلا منافقا يقول الشعر يهجو به أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ..." رواه الترمذي في التفسير (3036) وقال: غريب، وقال الألباني في صحيح الترمذي (2432): حسن، عن قتادة بن النعمان.
[9]- رواه أحمد (5385)، وقال مخرجوه : إسناده صحيح، وأبو داود في الأقضية (3597)، وابن ماجه في الأحكام (2320)، وصححه الألباني في الصحيحة (437)، عن ابن عمر.
[10]- رواه الطبراني في الأوسط (2944)، والصغير (224)، وحسنه الألباني في الصحيحة (1020)، عن ابن عباس.
[11]- رواه أحمد (14953) وقال مخرجوه: إسناده قوي على شرط مسلم، وأبو داود في البيوع (3414)، والطحاوي في شرح معاني الآثار (3095) وصحح الألباني في غاية المرام (459)، عن جابر بن عبد الله.
[12]- رواه مسلم في الفتن (2898).
حكم المحكمة لا يحل حراما
د. يوسف القرضاوي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن اتَّبع هداه.
(وبعد)
"اللهم إني أعوذ بك من الشقاق والنفاق وسوء الأخلاق"([1]).
أصول النفاق خمسة:
ذكرنا ثلاثة من أصول النفاق، وأصول النفاق وأركانه كما جاء في الأحاديث الصحيحة خمسة، ذكرنا الكذب في الحديث، والخيانة في الأمانة، والغدر في العهد، وبقي من خصال النفاق خَصلتان، إذا وعد أخلف، وإذا خاصم فجر.
احترام الوعد واجب:
وإخلاف العهد هو باب من نكث العهد، هو نوع من نقض الميثاق، الوعد إذا وعدتَ ينبغي أن تحترمه، (وَعْدُ الحرِّ دين عليه). الإنسان يُحاسب على الكلمة تخرج منه، لا يَعِدُ وعودًا ثم لا يفي بها، فهذا ليس من شأن الإنسان المؤمن، بل ليس من شأن الرجل الحرِّ، ولهذا قال العرب: إخلاف الوعد من أخلاق الوغد. أي أخلاق الإنسان الدَّنيء السفيه، الذي يملأ المجالس بالكلام يقوله لهذا وذاك، ولا ينفِّذ منه شيئًا. أما الإنسان الرجل، والإنسان المؤمن، فهو الذي يحترم كلمته، ولهذا قال الشاعر العربي قديمًا:
ولا أقول نعمًا يومًا وَأُتبعها بلا
ولو ذهبت بالمال والولد
لا أقول نعمًا يوما فأُتبعها بلا، أنفي ما أثبتُّه، وأُنكر ما قلته، قلتُ: نعم سأعطيك كذا، سأفعل لك كذا، ولا أقول نعمًا يومًا وأتبعها بلا، ولو ذهبت بالمال والولد، ولو كلَّفني ذلك مالي وأولادي وحياتي، هؤلاء هم الرجال.
ويقول الشاعر الآخر:
إذا قلتَ في شيء نعم فأتمَّه
فإن نعم دين على الحرِّ واجب
وإلا فقُل لا تَسْتَرِحْ وتُرِح بها
لئلا يقول الناس إنك كاذب[2]
لا تعطي وعدًا لا تستطع الوفاء به:
لا تُوَرِّط نفسك من أوَّل الأمر، إذا كنتَ لستَ من الرجال أولي العزم، الذين يَصدُقون إذا قالوا، ويَفون إذا وعدوا، لا تكن من الَّذين يقولون ولا يفعلون، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف:2-3]، فإن الله سبحانه وتعالى ذمَّ المنافقين بقوله: {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [التوبة:77].
وحكى لنا على لسان إبليس لعنه الله، أنه قال يوم القيامة متبرِّأ ممَّن اتَّبعوه وساروا في طريقه، قال: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي} [إبراهيم:22]، الله وعدكم وعد الحقِّ ووفَّى بوعده، {هَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ} [الأعراف:44]، ووعدتكم فأخلفتكم، ولذلك الَّذي يخلف وعده لا يقتدي بخلق الرَّحمن، إنَّما يقتدي بخلق الشيطان، الله يَعِد فيُنجز، {وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا}[الكهف: 98]، {وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ}[الزمر:20]، ولكن الشيطان يَعِد فيُخلف، يضحك عليك، {يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا} [النساء:120].
إخلاف الوعد بغير عذر حرام:
ولهذا كان الوعد لازمًا، وكان إخلاف الوعد بغير عذرٍ حراما، إذا وعد الإنسان آخر وفي نيَّته أن يُخلف، ليس في نيَّته أن يفي وينجز، فهذا حرام من أوَّل الأمر، أما إذا وعد وكان في نيَّته أن يفي، ثم بدا له شيء، ولم يَهُن عليه أن يفي بما وعد، فأيضًا هاهنا تأتي الحرمة، بل بعضهم جعله كبيرة؛ لأنه من أركان النفاق.
عندما حضر عبدَ الله بن عمر الوفاةُ، قال: انظروا فلانا - لرجل من قريش - فإني كنت قلت له في ابنتي قولا كشبيه الْعِدَّةِ وما أحب أن ألقى الله عز وجل بثلث النفاق وأشهدكم أني قد زوجته([3]).
أعطى شبه وعد، ولا بدَّ أنه قد عرَف رأي ابنته؛ لأنه لا يجوز للإنسان أن يُزوِّجَ ابنته بغير رضاها، ولا بإذنها ولو بالسكوت، لا أريد أن ألقى الله بثلث النفاق.
الوفاء بالوعد واجب ولو ترتب عليه كلفة:
ولهذا كان القول الصحيح من أقوال الفقهاء: أن الإنسان إذا وعد وعدًا، ترتَّب عليه كُلفة ونفقة ومشقَّة، فلا بدَّ أن يفي بهذا الوعد، كما قال المالكيَّة، وكما قضى به بعض قضاة السَّلف، وكما هو الظَّاهر من مذهب الإمام البخاري[4]. قال رجل لرجل: افعل كذا وسأشتريه منك، هات لي كذا وسآخذه منك، أو ابنِ لي بيتًا بالمواصفات الفلانية، وسأستأجرها منك. وفعل هذا يجب عليه أن يفي به، ويحرم عليه أن يُخلفه، تكلِّفني هذا كلَّه ثم ترجع عما قلتَ!
الجَعَالة من الوعد الذي يجب الوفاء به:
ولهذا من جعل جَعَالة، ووعد بشيء في المسابقات، مثلا لو قالت وزارة الأوقاف: مَن حفظ القرآن فله كذا. أو لو قالت وزارة التربية: مَن حقَّق كذا فله كذا. ودخل الناس المسابقة على هذا الأساس، فهل لهم أن يرجعوا عمَّا أعلنوه؟ الأصل في الوعد أنَّه ملزم، ما لم يكن هناك عذر شرعيٌّ يمنع منه.
الوعيد الشديد في نقض العهد:
إخلاف الوعد من باب نقض العهد، وإن نقض العهد أوثق وأوجب، ولذلك كان الوعيد فيه أشدُّ، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "إن الغادر ينصب له لواء يوم القيامة، فيقال: هذه غدرة فلان بن فلان"([5])، يُنصب لكلِّ غادر يوم القيامة لواء، تُرفع له راية، يُفضح بها على رؤوس الأشهاد، هذه غدرة، عاهد عهدًا فغدر.
ويقول النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم، فيما يرويه عن ربِّه من الحديث القدسي: "قال الله تعالى: ثلاثةٌ أنا خصمهم يوم القيامة، ومَن كنتُ خصمه خصمتُه"، مَن كان الله خصمه فلا بدَّ أن يُخصم ويُقهر ويُغلب، "رجل أعطى بي ثم غدر"، أعطى عهدًا بالله، باسم الله، على عهد الله وميثاقه، ثم غدر ونكث في هذا العهد، "رجل أعطى بي ثمَّ غدر، ورجل باع حرًّا فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرًا فاستوفى منه ولم يعطه أجره"([6])، استوفى منه عمله، ولم يوفِّه أجره، فهذا من خصماء الله تعالى يوم القيامة.
الفجور في الخصومة:
بقيت خصلة أخيرة من خصال النفاق، كما بيَّنتها صحاح الأحاديث: وهي الفجور في الخصومة، إذا خاصم فجر.
إذا كان بينه وبين إنسانٍ خلاف وخصومة، لم يقف عند حدود الحقِّ، وإنما يتعدَّاه إلى الباطل، لا يُبالي أن يكذب، لا يبالي أن يفتري، لا يبالي أن يُزيِّن دعواه بالأباطيل، بالأيمان الكاذبة، يحاول أن يجعل الحقَّ في صورة الباطل، والباطل في صورة الحقِّ، حتى يكسب المعركة مع خصمه، هذا هو الفجور في الخصومة، خصوصًا إذا كان ذا بيان وذا لِسان، وكان عنده قدرة على أن يُزيِّف الحقائق، هذا الذي جاء به الحديث الصحيح: " إنما أنا بشر، وإنه يأتيني الخصم، فلعل بعضكم أن يكون أبلغ من بعض، - يكون أفصح وأبين لسانًا - فأحسب أنه صدق، فأقضي له بذلك". لأن القاضي يقضي بالظاهر، والله يتولى السرائر، فأقضي له على نحو ما أسمع، "فمن قضيت له بحق أخيه شيئا، بقوله: فإنما أقطع له قطعة من النار فلا يأخذها"([7]).
حكم المحكمة لا يُحِلُّ حرامًا:
الذي يخاصم ويُزيِّن أمره ليغلب خصمه بالباطل، وترتَّب على ذلك أن المحكمة حكمت له، لا يظنُّ أن حكم المحكمة يُحِلُّ له الحرام، لا، حتى ولو كان القاضي هو رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، لأنه يقول: أنا أقضي على نحو ما أسمع، فهذا استغلَّ ضعف خصمه، لعله لم يكن له بيِّنة، ولم يكن قادرًا على الدفاع عن حقِّه. هذه هي الخصومة بالباطل، الإنسان يخاصم بالباطل، يفجُر في الخصومة، هناك أناسٌ إذا خاصموا فجروا، لم يبالوا أن يرتكبوا أيِّ شيء في سبيل أن ينتصروا، هم يُجلِبون عليك بخيلهم ورجلهم، ليكسبوا الأمر من خصومهم.
المسلم يعدل مع من يُحبُّ ومن يكره:
المطلوب من الإنسان المسلم أن يكون عدلاً منصفًا مع مَن يحبُّ ومع مَن يكره، الله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المائدة: 8]، لا يجرمنَّكم: لا يحملنَّكم. شنآن قوم: الشنآن، شدَّة العداوة والبغض. أي مهما كانت عداوتكم لهم، وشدَّة بغضكم لهم، أو شدَّة بغضهم لكم، فلا يحملنَّكم هذا على ألاَّ تعدلوا، اعدلوا هو أقرب للتقوى.
اعدل مع قريبك ومع البعيد عنك، اعدل مع صديقك ومع عدوك، اعدل مع المسلم ومع الكافر. العدل للنَّاس جميعًا، عدل الله لكلِّ عباد الله.
القرآن ينتصر ليهوديِّ اتُّهم بالسرقة ظلمًا:
نزلت تسع آيات من القرآن تدافع عن يهودي اتُّهم بالسرقة ظلمًا، ولم يكن قد سرق، وإنما كان السارق بعض المنافقين، أو ضعفاء الإيمان من المسلمين، وحاول الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم أن يدافع عن هؤلاء المسلمين، استبعادا منه أن تقع الجريمة من مسلم، ضدَّ ذلك اليهودي[8]، فنزل القرآن يخاطب رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا * وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا * وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا * يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا * هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا * وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا * وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا * وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [النساء:105-112].
ولهذا يحرم على المسلم أن يخاصم بالباطل، كما قال النبي صلَّى الله عليه وسلَّم: "من خاصم في باطل وهو يعلمه، لم يزل في سخط الله حتى يَنْزِعَ "([9])، حتى يُقلِع ويرجع عن هذه الخصومة بالباطل، ما دام يعلم ذلك.
الإعانة على الخصومة بالباطل:
ومثل المخاصم بالباطل: المُعين في الخصومة، مَن أعان على خصومة بظلم، لم يزل في سخط الله حتى ينزع، وفي بعض الحديث: " من أعان ظالما بباطل ليدحض بباطله حقا فقد برئ من ذمة الله وذمة رسوله"([10]).
من هنا تكون مصيبة الذين يشتغلون بالمحاماة، ويُخاصمون في قضايا يعلمون أنها باطلة، فيقف يدافع عن موكِّله، وهو يعلم أنه مجرم، ويحاول أن يُبطِل حُجَّة خصمه، وهو يعلم أنه محقٌّ، فهذا الذي يُعِين على الخصومة بالباطل، من أجل أن يكسب دراهم أو دنانير، هي متاع قليل، {مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ} [البقرة:174].
الخصومة في الفكر:
الخصومة بالباطل قد تكون في أمر مادِّي، وقد تكون الخصومة في أمر معنويٍّ، كما تكون الخصومة في المال، تكون الخصومة في الرأيِّ والفكر، هناك أناسٌ يخاصمونك في رأيك، لهم وجهة نظرٍ غير وجهتك، ولهم رأي غير رأيك، فلا يمنع هؤلاء أن يتقوَّلوا عليك الأقاويل، ويفتروا عليك الأكاذيب، ويُشوِّهوا صورتك عند النَّاس. هذا للأسف ما يحدث بين كثير من المختلفين في الآراء بعضهم وبعض.
والمؤمن يجب أن يلتزم الحقَّ في كلِّ خصوماته، كما قلتُ حتى مع غير المسلمين، مع الكافر والمسلم سواء، لأن عدل الله لا يتجزَّأ، عدل الله لكلِّ الناس جميعًا.
النبيُّ وأصحابه يلتزمون الحق في الخصومات:
هكذا كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، وهكذا كان أصحابه رضوان الله عليهم، كانوا لا يفرِّقون بين الناس في الخصومة، حتى إن اليهود والنصارى كانوا يقفون أمام القاضي كما يقف كبار المسلمين وكبار الصحابة والأمراء والخلفاء أنفسهم، حتى إن عليًّا بن أبي طالب أنكر على القاضي شُريحًا حينما كان مع خصم له قال له القاضي: يا أبا الحسن. فاعتبر هذه الكلمة نوعًا من التكريم في مجلس القضاء، فلينادِه باسمه مجرَّدًا.
وحينما ذهب عبد الله بن ابن رواحة إلى اليهود يَخرِص نخيلهم، فقد كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم عامل يهود خيبر على أن يزرعوا خيبر، ويقوموا بأمرها ولهم نصف الثمرة، وكيف يُحَدَّد نصف الثمرة؟ كان يُحدَّد بطريقة اسمها الخرص: تقديرٌ تقريبيٌّ من الخبراء. يقول: هذه النخيل فيها كذا وكذا من التمور. فأراد اليهود أن يَرشُوا عبد الله بن رواحة؛ ليخفِّف عليهم، بدل أن يقول: في هذه النخيل عشرة آلاف من وسق أو غير ذلك، يجعلها خمسة آلاف أو نحو ذلك. أرادوا أن يستميلوه على طريقتهم بالرشوة والمال، فقال لهم عبد الله: يا معشر اليهود، أنتم أبغض الخلق إليَّ، قتلتم أنبياء الله عزَّ وجلَّ، وكذبتم على الله، وليس يحملني بغضي إياكم على أن أحيف عليكم، قد خرصت عشرين ألف وسق من تمر، فإن شئتم فلكم، وإن أبيتم فلي. فقالوا: بهذا قامت السماوات والأرض، قد أخذنا([11]).
أترشونني يا أعداء الله، والله إنكم لأبغض إليَّ من القردة والخنازير، وإن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم لأحبُّ إليَّ من نفسي، ولكن هذا لا يجعلني أحيف عليكم مثقال ذرَّة، أكرهكم وأحبُّ رسول الله، ولكن لا يجعلني حبِّي رسول الله أن أعطي له، وأجعل له، وهو صلَّى الله عليه وسلَّم هو رئيس الدولة ما لا يحقُّ له، وآخذ منكم ما لا يجوز لي.
هذا هو العدل الذي قامت به السموات والأرض، الخصومة لا تجعل الإنسان يفجر على خَصمه، ويدَّعي عليه ما ليس بحقٍّ، بل يقول الحقَّ في شأنه، الماديِّ وحقِّه الأدبي.
سمع عمرو بن العاص رضي الله عنه من أحد الصحابة المستورد القرشي، أنه سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "تقوم الساعة والروم أكثر الناس" - العرب يسمون كلُّ من كان جهة الشمال والغرب من البيزنطيين والأوربيين وغير هؤلاء، كل هؤلاء روم - تقوم الساعة والروم أكثر أهل الأرض. فقال له عمرو: أبصر ما تقول. قال: أقول ما سمعتُ من رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: لئن قلتَ ذلك، إن فيهم لخصالا أربعا: إنَّهم لأحلم الناس عند فتنة، وأسرعهم إفاقة بعد مصيبة، وأوشكهم كَرَّة بعد فرَّة، وخيرهم لمسكين ويتيم وضعيف، وخامسة حسنة جميلة: وأمنعهم من ظلم الملوك([12]).
عمرو بن العاص الذي واجه الروم في مصر، وواجهم في فلسطين، وواجهم في معارك حامية، لم يمنعه ذلك أن يعترف لهم بما فيهم من خصالٍ حسنة، تجعلهم أهلاً لئن يكون لهم شأنٌ في هذه الدُّنيا.
هكذا ينبغي أن يعرف الناس خصومهم على حقيقتهم.
ضياع الحقيقة بين التهوين والتهويل:
للأسف في شأن خصومنا، تضيع الحقيقة عندنا بين التَّهوين والتَّهويل، إما أن نُهوِّن من أمرهم، ولا نجعل لهم قيمة، وإما أن نُهوِّل ونُضخِّم ونجعل الدنيا في كفِّهم، ونجعل أنفسنا أحجارًا على رقعة الشطرنج. هذا كلُّه ليس من العدل، ولا من الإنصاف في شيء.
الإسلام يربِّي المسلم على أن يقول الحقيقة لا يتعدَّاها، سواء إذا تحدَّث عن نفسه، أو تحدَّث عن خصومه، فهو مُنصف دائمًا، عدلٌ دائمًا، لا يخرجه الغضب عن قول الحقِّ، إذا غضب لم يخرجه الغضب عن الحقِّ، وإذا رضي لم يدخله الرضى في الباطل، إذا أحبَّ أو كره كان مع الحقِّ حيث كان، وهذه هي خصال المؤمنين.
أما خصال المنافقين فهي: إذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر.
هذه هي خصال النفاق: إذا حدَّث كذب، وإذا ائتُمن خان، وإذا عاهد غدر. نعوذ بالله من أن نكون من المنافقين، أو نكون ظهيرًا للمنافقين، اللهم آمين.
ـــــــ
[1]- رواه أبو داود في الصلاة (1546)، النسائي في الاستعاذة (5471)، وضعفه الألباني في ضعيف أبي داود (332)، عن أبي هريرة.
[2] - من شعر أبي تمام.
[3]- رواه الفريابي في صفة النفاق (19).
[4]- صحيح البخاري كتاب الشهادات باب من أمر بإنجاز الوعد (3/180). وانظر: فتح الباري (5/290).
[5]- متفق عليه : رواه البخاري في الأدب (6178)، ومسلم في الجهاد والسير (1735)، عن ابن عمر.
[6]- رواه البخاري البيوع (2227)، وأحمد (8692)، عن أبي هريرة.
[7]- متفق عليه : رواه البخاري في الشهادات (2680)، ومسلم في الحدود (1713)، عن أمِّ سلمة.
[8] - إشارة إلى الحديث الطويل : " كان أهل بيت منا يقال لهم: بنو أبيرق بشر وبشير ومبشر، وكان بشير رجلا منافقا يقول الشعر يهجو به أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ..." رواه الترمذي في التفسير (3036) وقال: غريب، وقال الألباني في صحيح الترمذي (2432): حسن، عن قتادة بن النعمان.
[9]- رواه أحمد (5385)، وقال مخرجوه : إسناده صحيح، وأبو داود في الأقضية (3597)، وابن ماجه في الأحكام (2320)، وصححه الألباني في الصحيحة (437)، عن ابن عمر.
[10]- رواه الطبراني في الأوسط (2944)، والصغير (224)، وحسنه الألباني في الصحيحة (1020)، عن ابن عباس.
[11]- رواه أحمد (14953) وقال مخرجوه: إسناده قوي على شرط مسلم، وأبو داود في البيوع (3414)، والطحاوي في شرح معاني الآثار (3095) وصحح الألباني في غاية المرام (459)، عن جابر بن عبد الله.
[12]- رواه مسلم في الفتن (2898).